ومن شر شامت

07 فبراير 2015
+ الخط -
يميل ناس كثيرون، بطبيعتهم، إلى التنافس، والانحياز المطلق للذات، والتواطؤ المكشوف، لتمرير عيوبهم وأخطائهم، وكذلك اختلاق الذرائع، لحمايتهم وانتهاج منطق تبريري، في تعاطيهم مع الآخر. ومهما بلغت درجة مثالية الفرد ومدى اعتناقه قيم الخير، ومهما تحلى بالقدرة على نكران الذات التي قد تقتصر على القديسين والأنبياء، فإنه، عند اللحظة الحاسمة، لن يفضل أحداً على نفسه. قيل قديماً في تأكيد هذه الطبيعة المؤسفة (يا روح ما بعدك روح). وفي مثل شعبي لا يقل بلاغة (الله لا يفرح حدا وقلبي حزين). هذه طبيعة إنسانية أرضية، متفاوتة نسبتها بين الأفراد، وهي نتيجة حتمية لمتطلبات غريزة البقاء، كما أنها تعكس الجانب البهيمي الغرائزي في النفس البشرية الأمارة بالسوء، في أحيان كثيرة. من البديهي أن الحيوانات في البرية تتصارع بضراوة على الطرائد، وتفتك بها، من دون أدنى إدراك لمفهوم الرحمة والرأفة بمخلوقات أضعف منها، وتتصدى لمن يهدد أمنها، في استجابة غريزية لشرط الطبيعة.
ولشديد الأسف، لا يختلف الأمر كثيراً في حالة بني البشر. سوف نخلص إلى هذه النتيجة ببساطة، حال استعراض تاريخنا، ليس ابتداء من تلك القنابل النووية التي أجهزت على ملايين الأرواح بكبسة زر، إضافة إلى تلك المجازر والمذابح المعاصرة التي تتخللها الإعلانات التجارية عن أفضل منظفات البلاط والمغاسل! والمنقولة على الهواء، في بث حي ومباشر. ولعل في مظاهر الظلم والعدوان والقتل والاعتداء الوحشي على المستضعفين بالأرض، تأكيد على قدرة الإنسان على اقتراف البشاعة المقترنة بتاريخ البشرية، منذ الجريمة الأولى التي قتل فيها قابيل هابيل، بفعل تعاظم مشاعر الحقد والحسد. وقد كشفت حوادث وكوارث قابلية الإنسان على تجسيد فكرة القسوة بأشد تجلياتها، إذا كان ذلك في سبيل البقاء، وما نزال نذكر حادثة تحطم الطائرة التي ضمت، بين ركابها، فريق كرة قدم أميركية، وتحولت الحادثة، فيما بعد، إلى فيلم سينمائي مهم، حيث أقدم ناجون، (وهم أشخاص أسوياء بملامح طبيعية، يرتدون ثياباً عادية، مثل سائر الناس، وليست لهم أية مخالب، ولا يغطي أجسادهم فراء مرقط، ولا يزأرون في العادة)، أقدم هؤلاء على التهام لحم رفاقهم من الموتى، وقد حفظت جثثهم تحت الثلوج المتراكمة، في وجبات متتالية، كانت وسيلتهم الوحيدة للبقاء أحياء.
وتظل تلك الواقعة من حالات استثنائية قصوى، يمكن تفهمها، ضمن منظور واقعي وعملي وإجرائي، وحتى أخلاقي، كونه فعلاً اضطراريّاً مطلقاً. لكن، المرعب في الأمر أن يتصف شخص طبيعي سوي في ظروف ليست كارثية، لا تتضمن أي اضطرار من أي نوع بتلك القوى العدوانية السوداء الكامنة، والرغبة في إلحاق الأذى بالآخرين، لمجرد أنهم حققوا نجاحا ما، من النادر أن يعترف أحدنا طوعياً بهزيمته في تنافس ما، فيختلق ذرائع تؤكد تعرضه للظلم، أو لسوء الحظ، ويستنزف كل طاقاته في مشاعر سلبية، من شأنها أن تحيله إلى كائن بغيض، ينفر منه الآخرون. وغالباً، ما تتبدى لديه مشاعر الشماتة، حين يخفق أحد ما، وهي مشاعر غبية بالضرورة، حيث يفترض الشخص الشامت بقصور نظرائه أن يكون محصناً من كل سوء من حيث المبدأ، وكأن الدنيا ليست دوارة بطبيعتها. والشماتة، كما يعرفها علم النفس، طاقة سلبية، تعبر عن عجز نفسي خطير، وتتجه نحو شخص تعثر في حياته، بعد نجاح، أو أصيب بمصاب أليم، فتعتري الشامت سعادة كبرى، لا يخجل من التعبير عنها. وتعبر مشاعر كهذه عن روح ثأرية انتقامية، وعن قصور نفسي وإخفاق أخلاقي وفشل إنساني. الشامتون كثر، وهم مجرد نماذج شوهاء أفقرت أرواحها من معاني الحب والخير والرحمة، والتعاطف، واستمرأت سواد الكراهية، فكفت عن الإشراق والسمو الذي يرتقي بالنفس إلى مرحلة من الفرح، لن يدركوها أبداً.

دلالات
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.