16 نوفمبر 2024
ولايتان فقط للرئيس الموريتاني
فاجأ الرئيس الموريتاني، محمد ولد عبدالعزيز (62 عاما)، القوى السياسية في بلاده، بإعلانه ضمنياً عدم الترشح لولاية (مأمورية، حسب التعبير الموريتاني) رئاسية ثالثة، في الانتخابات الرئاسية المنتظرة منتصف العام الجاري. وذلك في بيانٍ لرئاسة الجمهورية في 15 يناير/ كانون الثاني الجاري، تضمن عباراتٍ تفيد التمسك بالدستور، وعدم المسّ بمواده المتعلقة بفترة حكم المسؤول الأول في البلاد (ولايتان: كل منهما ست سنوات). وبدا البيان الرئاسي قوياً في استخدامه لهجةً تنم عن لوم من طالبوا بتعديل الدستور، لتمكين الرئيس ولد عبدالعزيز من ولاية ثالثة، وإن اعتبر أن مطالباتهم تعكس سلامةً في النية والقصد.
هذا التطور على جانبٍ من الأهمية، إذ يستجيب لمطالب المعارضة السياسية والحزبية بالتمسّك بالدستور، كما يعكس التزاما من الرئيس بالمرجعية الدستورية، وهو ما يفتح أفقا لتطوّر النظام السياسي في موريتانيا التي شهدت موجةً احتجاجية واسعة في الأسابيع الماضية ضد مطالبات نوابٍ بتعديل الدستور، فيما اعتصمت السلطات بالصمت بشأن توجهات الرئاسة، تاركة الأمور للتفاعلات في مجلس النواب (المجلس الوطني)، ثم خرجت هذه السلطات عن صمتها قبل نحو أسبوع، بإطلاق تحذيراتٍ من حجب مواقع منصّات التواصل الاجتماعي عن الشبكة العنكبوتية، إذا ما استمرّت الحملات. وتعرّض ناشطون للاعتقال، وخصوصا من مجموعة تحمل اسم
"مُحال تغيير الدستور"، إلى أن قرّ قرار الرئيس على حسم الموقف، والإعلان عن التمسّك التام بالدستور نصاً وروحاً.
وعلى الرغم مما اتسم به البيان الرئاسي من وضوح، إلا أن فاعلين سياسيين شكّكوا فيه بتصريحات فورية، ونعتوا الموقف الذي تضمنه بأنه "غامض"، ربما لأنه لم يأتِ صراحةً على أن الرئيس الحالي لا يعتزم الترشح مجدّداً، علما أن رئاسة الجمهورية، بمكانتها الرمزية، وباعتبارها جهة سيادية عليا، ليست الموقع الذي يتم فيه الإعلان عن الترشح، أو الامتناع عن الترشّح، حتى لو تعلّق الأمر بالرئيس نفسه، فهناك هيئاتٌ رسميةٌ معنيةٌ بالأمور الانتخابية، يعرفها الموريتانيون. وأيا كانت الدواعي المباشرة والبواعث الفعلية التي حملت ولد عبد العزيز على قطع الطريق على محاولات بعضٍ من أصحاب الولاءات تعديل الدستور لصالح ترشيحه فترة ثالثة، فالثابت أن هذه الخطوة بادرةٌ طيبةٌ وسابقةٌ حميدةٌ في الأداء السياسي و"السلطوي"، وتؤسّس لاحترام الآليات الدستورية في هذا البلد العربي الذي يشكو التهميش (بدا ذلك في القمة العربية التي استضافتها نواكشوط عام 2016، وتميّزت بتمثيلٍ ضعيفٍ للقادة فيها)، ويكافح للخروج من ربقة التخلف، بما في ذلك التحرّر من إرث العبودية (الرق) الذي كان متغلغلا في نسيج المجتمع. وكشف تقريرٌ للبنك الدولي أن موريتانيا ستتربّع على عرش النمو الاقتصادي في المنطقة المغاربية، بنسبة نموٍّ تقترب من 5% في العام الجاري، بما يجعل هذا البلد مسرحا لمؤشّرات متناقضة؛ ففي اليوم التالي لبيان الرئاسة، وبعد أقلّ من عشرة أيام على صدور تقرير البنك الدولي، شهدت البلاد الأربعاء الماضي مأساة غرق مركب يُقلّ 52 شابا موريتانيا، كانوا يعبرون البحر بطريقةٍ غير مشروعة، متوجهين إلى الشواطئ الإسبانية. وقد جاءت هذه الحادثة في غمار ضجيج سياسي وإعلامي داخلي، بشأن بيان التمسّك بالدستور بغير تعديل، وردود فعلٍ على البيان من بعض قوى المعارضة، تراوحت بين التشكيك في النيات و"الشماتة" والترحيب الحذر. بينما يقضي كل منطقٍ بالترحيب الصريح بهذا الموقف الذي يؤسّس لتقاليد سليمة في البلد، تُنجيها من موجة الاستبداد وبقاء الحاكم على عرشه "إلى الأبد".
ولا يقلل من أهمية الأمر أن الرئيس ولد عبد العزيز صعد إلى الحكم بانقلابٍ عسكري على
الرئيس المنتخب، سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، فالانقلابات ظلت تسم الحياة السياسية في موريتانيا منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1960، فقد كان ولد عبد العزيز الرئيس السادس الذي يصل إلى سدة الحكم عبر انقلاب في العام 2008. ونظّم انتخاباتٍ في العام التالي، فاز فيها بنسبةٍ تزيد قليلاً عن 52%، وقد اتهمت المعارضة الحكم بتزوير تلك الانتخابات. وتلك صفحاتٌ كئيبةٌ تستحق النظر إليها بأسى، والاستفادة من دروسها، بيد أنها تُجاور صفحاتٍ مضيئةً مثل اختيار الرئيس المختار ولد دادة أول رئيسٍ بعد الاستقلال، وإقرار التعدّدية الحزبية في 1991، ودخول أحزاب المعارضة المجلس الوطني النيابي أول مرة عام 2001، وصدور القوانين المتعلقة بإلغاء الرّق في 2007 و2015.
ويأمل المرء أن تمضي خطوات التمسّك بالدستور، والعمل بمقتضاه، إلى الأمام، في أجواء طبيعية بعيدة عن التشنج السياسي والمشاحنات الإعلامية والحزبية، وأن تشهد البلاد تنافسا ديمقراطيا نزيها في الانتخابات، بما يطوي نهائيا صفحة الانقلابات، وتحكّم المؤسسة العسكرية بالحياة السياسية. وبما ينزع أسباب النزاعات الأهلية بين مكونات المجتمع، وبما يشكّل مصدر إلهام وإشعاع للشعوب والنخب والفاعلين السياسيين في شمال أفريقيا، وفي عموم المنطقة العربية، وفي وقتٍ بات النزوع إلى تأبيد الحكم بالطرق الوحشية من التقاليد "العادية" السارية في الوطن العربي السعيد.
وعلى الرغم مما اتسم به البيان الرئاسي من وضوح، إلا أن فاعلين سياسيين شكّكوا فيه بتصريحات فورية، ونعتوا الموقف الذي تضمنه بأنه "غامض"، ربما لأنه لم يأتِ صراحةً على أن الرئيس الحالي لا يعتزم الترشح مجدّداً، علما أن رئاسة الجمهورية، بمكانتها الرمزية، وباعتبارها جهة سيادية عليا، ليست الموقع الذي يتم فيه الإعلان عن الترشح، أو الامتناع عن الترشّح، حتى لو تعلّق الأمر بالرئيس نفسه، فهناك هيئاتٌ رسميةٌ معنيةٌ بالأمور الانتخابية، يعرفها الموريتانيون. وأيا كانت الدواعي المباشرة والبواعث الفعلية التي حملت ولد عبد العزيز على قطع الطريق على محاولات بعضٍ من أصحاب الولاءات تعديل الدستور لصالح ترشيحه فترة ثالثة، فالثابت أن هذه الخطوة بادرةٌ طيبةٌ وسابقةٌ حميدةٌ في الأداء السياسي و"السلطوي"، وتؤسّس لاحترام الآليات الدستورية في هذا البلد العربي الذي يشكو التهميش (بدا ذلك في القمة العربية التي استضافتها نواكشوط عام 2016، وتميّزت بتمثيلٍ ضعيفٍ للقادة فيها)، ويكافح للخروج من ربقة التخلف، بما في ذلك التحرّر من إرث العبودية (الرق) الذي كان متغلغلا في نسيج المجتمع. وكشف تقريرٌ للبنك الدولي أن موريتانيا ستتربّع على عرش النمو الاقتصادي في المنطقة المغاربية، بنسبة نموٍّ تقترب من 5% في العام الجاري، بما يجعل هذا البلد مسرحا لمؤشّرات متناقضة؛ ففي اليوم التالي لبيان الرئاسة، وبعد أقلّ من عشرة أيام على صدور تقرير البنك الدولي، شهدت البلاد الأربعاء الماضي مأساة غرق مركب يُقلّ 52 شابا موريتانيا، كانوا يعبرون البحر بطريقةٍ غير مشروعة، متوجهين إلى الشواطئ الإسبانية. وقد جاءت هذه الحادثة في غمار ضجيج سياسي وإعلامي داخلي، بشأن بيان التمسّك بالدستور بغير تعديل، وردود فعلٍ على البيان من بعض قوى المعارضة، تراوحت بين التشكيك في النيات و"الشماتة" والترحيب الحذر. بينما يقضي كل منطقٍ بالترحيب الصريح بهذا الموقف الذي يؤسّس لتقاليد سليمة في البلد، تُنجيها من موجة الاستبداد وبقاء الحاكم على عرشه "إلى الأبد".
ولا يقلل من أهمية الأمر أن الرئيس ولد عبد العزيز صعد إلى الحكم بانقلابٍ عسكري على
ويأمل المرء أن تمضي خطوات التمسّك بالدستور، والعمل بمقتضاه، إلى الأمام، في أجواء طبيعية بعيدة عن التشنج السياسي والمشاحنات الإعلامية والحزبية، وأن تشهد البلاد تنافسا ديمقراطيا نزيها في الانتخابات، بما يطوي نهائيا صفحة الانقلابات، وتحكّم المؤسسة العسكرية بالحياة السياسية. وبما ينزع أسباب النزاعات الأهلية بين مكونات المجتمع، وبما يشكّل مصدر إلهام وإشعاع للشعوب والنخب والفاعلين السياسيين في شمال أفريقيا، وفي عموم المنطقة العربية، وفي وقتٍ بات النزوع إلى تأبيد الحكم بالطرق الوحشية من التقاليد "العادية" السارية في الوطن العربي السعيد.