وصية زوجتي الراحلة

29 سبتمبر 2015
(Getty)
+ الخط -
لم أكن أعرف أن زوجتي بهذه الحساسية والشفافية، وكنت أراها زوجة عادية لا هم لها سوى البيت والأولاد، واعتبرت أنها راضية وقانعة بدورها، ولم تلهث يوماً خلف الموضة لكي ترضيني، ولكنها كانت تعدد أسماء صبيانها الذكور الستة وصفاتهم، عندما تتحدث عن فضلها علي. فهي قد أعلت ذكري ورفعت قدري بنصف دستة من الشباب بين حمولتي، وحسبت لي العشيرة ألف حساب بسبب قوة بأسهم وقسوة عصبتهم.


قبل عشرين سنة صحبت أكبر أولادي مع زوجتي لخطبة فتاة كانت وقتها في الثامنة عشرة من عمرها، أعجبت أنا شخصياً بها، فقد كانت جميلة الملامح، ولكنها قصيرة القامة وممتلئة قليلاً، وأعجب بها ابني أيضاً، ولمحت نظرة غريبة في عيني زوجتي وهي تنتقدها، ولم تكن تلك النظرة التي توقعتها من حماة مستقبلية تختار زوجة ابنها، وهي تراها لأول مرة.

في صالة بيت أهل الفتاة البسيطة اعتذر والدها عن القبول؛ والسبب أن الفتاة لا تريد السكن في منطقة نائية بعيداً عن بيت عائلتها، فهي متعلقة بأمها كثيراً، وعلى ذلك انفض المجلس سريعاً، وظلت زوجتي صامتة طول طريق عودتنا إلى مدينتنا.

مرت السنوات وتزوج كل أولادي الذكور، وبقيت وحيداً مع زوجتي التي نال بها الكبر والمرض، وبدأت تلمح لي بأن أيامها في الحياة معدودة، ولكني لم أكن أعرف أنها ما زالت تتابع أخبار تلك الفتاة التي نظرت لها منذ عشرين سنة نظرة إعجاب خاصة، وبأنها ما زالت تذكر أنني قد تفحصت تفاصيلها بطريقة اشتهاء لا تليق بأب على وشك أن يخطبها لابنته، وقد كنت صادقا مع نفسي وقتها، لأني تمنيت لو حظيت بها لنفسي، فقد كنت لم أكمل الأربعين من عمري ولدي المال والبيت الواسع، ولكن ابني الجالس إلى جواري ذكرني أني قد جئت لأطلبها زوجة له.

أقرأ أيضًا:حكواتي: أكره "سجن" مريول المدرسة


رحلت زوجتي قبل عام، وتركت وصية أودعتها لزوجة ابني الأكبر، فقد قالت لها بالحرف الواحد: اذهبي مع "سلفاتك" لبنت فلان واخطبيها لحميك؛ أي والد زوجك/ أنا أعرف أن البنت لم تتزوج، وهي تقترب من عامها الأربعين.

أقرأ أيضًا:اسمها "خيانة"

وهكذا وجدت نفسي للمرة الثانية في بيت الفتاة، ووجدت بي الجرأة لأتأملها، فهي لم تتغير كثيرا، وفهمت أن سبب تعثر زواجها هو بدانتها وقصر قامتها، ولكن جمال ملامحها ورقتها ووجهها الطفولي سلبوا عقلي، ولم أنظر إلى عيب آخر رآه الآخرون فيها على مر السنوات.

تزوجتها بعد أن رضيت بي هذه المرة، ولم أخبرها بوصية زوجتي التي فهمت نظرتي السريعة لها في المرة الأولى، ولكني ما زلت حتى الآن لا أعرف سر هذه المرأة التي فهمتني دون أن أتكلم، والتي احتفظت بداخلها بظل امرأة أخرى أعجبت زوجها، وطافت في مخيلته كأنثى مشتهاة، ولم أعرف سرها، وهي التي لبت لي أمنية عابرة بعد وفاتها.



المساهمون