وردة لروح عبد الكبير الخطيبي

10 مارس 2015

عبد الكبير الخطيبي (1938- 2009)

+ الخط -

في السادس عشر من مارس/آذار الجاري، تحلّ الذكرى السادسة لرحيل المفكر والشاعر والروائي والناقد والإنثروبولوجي والسوسيولوجي المغربي، عبد الكبير الخطيبي (1938 – 2009). والرجل محطة استثنائية في مسار الحداثة الإبداعية العربية (والكونية أيضاً) المستندة إلى مقلع هويتها التراثية المغربية بطرق متجددة، رؤية ومنهجاً ولغة.. وكذلك بوصفها تنتج وعياً ثقافياً وإبداعياً متجاوزاً يخرج عن مداره، مقتحماً مدارات الآخرين في العالم كافة.

في كل مرة، كنت أزور فيها المغرب، كنت أحرص على الالتقاء به، والتحدّث إليه في شؤون فكرية مستجدّة شتّى، وكانت قد توطّدت بيننا صداقة أثيرة ومستدامة، أوقد شرارتها الأولى حوار فكري نقدي معمّق، أجريته معه لدورية أسبوعية لبنانية، صيف 1978، انطلاقاً من كتابيه "الذاكرة الموشومة" و"الاسم العربي الجريح"، وغير ذلك من قضايا أدبية ومعرفية أخرى.

كانت الصورة الإبداعية الفذة للخطيبي محطّ إجماع الأغلب الأعم من المفكرين والمبدعين والنقاد الطليعيين في المغرب وخارجه، أي في عموم أقطار الوطن العربي، وفي أوروبا والولايات المتحدة وحتى اليابان. يكفي ما قاله فيه الناقد الفرنسي الكبير، رولان بارت، شهادة على ما نقول: "إنني والخطيبي نهتم بأشياء واحدة: بالصور، الأدلة، الحروف، العلامات. وفي الوقت عينه، يعلّمني الخطيبي جديداً يخلخل معرفتي، لأنه يغيّر مكان هذه الأشكال كما أراها، ويأخذني بعيداً عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحسّ كأني في الطرف الآخر من نفسي".

كان لقائي الأول بعرّاب الحداثة المغربية في أحد مقاهي الرباط الأنيقة، ولم أتوقع أن يمتد اللقاء إلى ما يزيد على الأربع ساعات ونصف الساعة، حيث كانت أجوبته عن أسئلتي المتشعبة في غاية التسديد العقلاني والإحاطة الرؤيوية المكثفة بلحظات التجلي والشفافية. وكان يقول: "العالم الجديد يفرض علينا ترك الما قبل والما بعد، للشغل من جديد على الفاعل والمتفاعل. ورؤية الفاعل والمتفاعل، هنا، يجب أن تُكتب، أولاً، لتشهد على نفسها، ومن ثم لنبدأ بتفكيكها ثانياً، تمهيداً لصوغها مجدداً في المشهد السياسي والإنساني العام".

وإذا كان مصطلح "المثقف"، من وجهة نظر الخطيبي، عاماً، متعدّد المعاني وشبكي التوجّهات، "وجب علينا بالتالي تحديده أحياناً، لا لشيء، إلا لأن المثقف منتج وعي أو خطاب تغيير، يفترض بنا ألّا نؤطّرهما داخل جدلية التاريخ، أو جدلية الإيديولوجيا. وتبعاً لذلك، على المثقف أن يخرج من باطن حراكه الصامت، مقتحماً كل شيء من حواليه. هكذا بثبات معرفي واثق، ومُنظّف لأوهام الاستعراضات كافة".

وحين كان الخطيبي يسترسل في الإجابة عن أسئلة تتعلق بسر اهتمامه بالوشم المغربي، ودواعي خوضه في عوالمه المتباينة، كان يؤكد أن علامات المحلي، علامات كونية أيضاً، يفترض ألّا يدبّ العطل في وظيفتها الترميزية ذات القيموميات الدالّة. ومن هنا، نفهم، مثلاً، سر ربطه "الوشم" المغربي بصنوه البولينيزي، وما وراءهما من ثقافة أوشام عرفتها حضارات آسيوية قديمة عدة، موزعة اليوم على دول مثل: الصين، اليابان، كمبوديا، لاوس، الفلبين... إلخ، والانعطاف بهذه الثقافة لتكون فناً جسدياً يقود إلى افتضاح المطلق، وكشف حيوات ما بعد الموت، وكذلك لدرء الشرور والكوابيس وإرضاء الآلهة. كما كانت الوشوم تؤشر إلى أنظمة مجتمعية وحياتية بحالها، على مستوى طقوس الحب، وسحر الانجذاب، والزواج، والإثارة الجنسية، فضلاً عن التعبير عن الفروسية والشجاعة، وتحمّل الآلام، وتصنيف المراتب داخل القبيلة. وللوشم، أو التوشيم، وظيفة علاجية تشبه ظاهرة الوخز بالإبر الصينية اليوم. وله وظائف نفسية أيضاً، لعل في طليعتها مهمة السيطرة على الجسد، والتحكّم به، وإعطائه وجوداً فوق وجوده القار. وهذا كله يتناوله الخطيبي في كتابة إبداعية مهجوسة بفضاء الشعرية.

سوسيولوجياً كان عبد الكبير الخطيبي، بالإضافة إلى استيعابه النافذ طبقات مجتمعه المغربي، يتكئ على الأدب في قراءة الواقع، ولا سيما الرواية بمتاهاتها ودواماتها الصراعية المفتوحة. ولا غرو، فالرواية المغربية كانت خارطة طريقه إلى ذلك. وقد حصّل بموجب هذه الخارطة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية في السوربون في العام 1969. ثم إن روايته الأولى "الذاكرة الموشومة" (صدرت في باريس 1971) مكتظّة بسيرته الذاتية، مغربياً تنقّل في مدن بلده، ومدن أوروبا، أي من الجديدة إلى الصويرة إلى مراكش فالرباط ومنها إلى باريس فلندن... إلخ، مشتبكاً مع الحياة، وما تفرضه من ضغط معطيات، وصور احتراق، لا يتحكّم فيها عقل ولا قلب، بل سجال غربة واغتراب يندرج في بنيته الباطنية بكامل سماته وألطافه، ولا سيما من بينها البراءة المعقدة الخجولة، وهيف الروح، وتواطؤ المراوغات، وثقل الأسئلة، التي تشبه بحنينها المبطّن بعض أسئلة كانت تُتلى على القديس إثناسيوس، ومنها السؤال الاغترابي الأعمق: "العالم كله ضدك يا أثناسيوس، فكان رده: وأنا ضد العالم أيضاً".

في السبعينيات، كان عبد الكبير الخطيبي في طليعة الذين شغلوا الساحتين الفرنسية والمغاربية المحتدمتين بالصراعات الفكرية والنقدية والإيديولوجية ومسألة الهوية، مبلوراً ما سمّاه "النقد المزدوج"، والذي يشرحه زميله محمد الوقيدي بتكثيف موجز: "الخطيبي كان يرى أن علم الاجتماع في العالم بعامة، ومنه العالم العربي بخاصة، بحاجة إلى نقد مزدوج، أي إلى مهمة تفكيكية للمعرفة الاجتماعية حول العالم العربي في مستويين متمايزين، ومرتبطين في الوقت عينه: تفكيك المعرفة التي تتعلق بالعالم العربي، والتي كان يغلب عليها الطابع الغربي وإيديولوجيته المتمركزة حول الذات، ثم تفكيك المعرفة الاجتماعية التي انتهجها العالم الغربي حول ذاته ونقد مفاهيمها".

كان الخطيبي، المغربي المغرق في مغربيته، والفرنكفوني المنفتح على حضارات الغرب قد طرح (مثلما فعل أسلافه الفرنكفونيون) سؤال الهوية المنقسمة بين لغة الآخر وحقيقة الذات، التي تضرب جذورها في التراث القديم الحي، غير أنه نجح، أكثر من سواه، في التوفيق بين غربة اللغة وصورة الذات. وقد آزرته في هذه المهمة ثقافته العميقة، ومراسه الأكاديمي، ونزعته الإبداعية التي حملته على خوض غمار الشعر والرواية والتأمل الفلسفي.

من جهة أخرى، كان الراحل أحد أهم الأصوات التي عملت على معالجة المشكل الحسّاس والمزمن بين العربية والأمازيغية في المغرب، من دون الإضرار بالهوية الحضارية العربية للمغرب ووحدته الرئيسة. ومن جهة ثانية، أقرّ بالحفاظ على اللغة الأمازيغية وتدريسها، انطلاقاً من أن السلم المدني والاجتماعي يمر عبر السلم اللغوي: "يجب تدريس اللغة العربية، باعتبارها لغة رسمية، والأمازيغية باعتبارها لغة ثقافة، ليس داخل المناطق المعنية فقط، بل لكل من يرغب في ذلك". ويردف الخطيبي: "الثقافة الأمازيغية تراث وذاكرة، وهي معطى في كياننا المستقبلي. إن التعدد والازدواجية قوة للمعرفة والتسامح، عندما يكون لها مركز ثقل محدد للهوية وتكون تعبيراً عن الإجماع، في ما تتحول إلى عامل من عوامل ضياع الطاقات وانكفاء المجموعة حين يتم إخفاؤها أو إنكارها. فإنكار الواقع يؤدي إلى التخلف، وإلى هشاشة الصورة التي نرسمها لأنفسنا".

آمن الخطيبي بفكرة التغيّر الجدلي للثقافات العالمية الراسخة، ومنها ثقافتنا العربية. وهو التغيّر الذي ينبع من الصراع بين العناصر المتناقضة داخل هذي الثقافات الصلبة عينها، انطلاقاً، أولاً، من أن اللاملموس واللامرئي يفوق بكثير ما يُستطاع لمسه ورؤياه. وثانياً إننا نعيش عصر العلم الحديث، أو الثورة المعلوماتية التي تفتح العالم بعضه على بعض، كما لم يسبق ذلك من قبل. فالحضارة العالمية السائدة، إذاً، هي التقليد الجديد لجميع الثقافات الحيّة، وعليها، بالتالي، التكيّف باستمرار مع هذا التطور الكوني وبنياته التقنية. وفي المحصّلة، لا يوجد في رأي الخطيبي خيار للشعوب شبه الأمية، فإما أن تشرع العمل بنكران ذات، أو أن تضمحل.

لم ينتم الخطيبي إلى تيار سياسي بعينه، لكنه لم يساوم يوماً على قضية فلسطين، والتي تحدّى بها يوماً سارتر ومن يحيط به، بعد تجاوزهم المسألة الكبرى، ليس في ما يشبه الانحياز للصهاينة المحتلين فقط، وإنما تبنّي وجهة نظرهم بالكامل. وعلى ذمة الروائي الجزائري، الطاهر وطار، "هذا الموقف الراديكالي من الخطيبي تجاه الحق الفلسطيني هو الذي حرمه من الفوز بنعمة جائزة نوبل".

قبل شهور، كنت في المغرب (في مؤتمر فكري)، ولم أشأ مغادرة هذا البلد الذي أحب وأعشق، قبل أن أذهب إلى ساحل هرهورة، حيث هناك منزل الراحل الكبير، لأرمي وردة على الشاطئ المحاذي له، لعلها تكون عنصر غواية، أستذكر فيها بعضاً من روح الراحل الكبير.

A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.