عن الفساد والدول الأقل فسادا ... سيناريوهاته متمادية ومقوّضة للمجتمعات والأوطان
تكلفة الفساد باهظة للغاية. هذا ما ندركه جميعاً، وتدركه قبلنا الحكومات والمؤسّسات المالية الشرعيّة، ومعها الحكّام والمسؤولون السياسيون الجدّيون في الـ 196 دولة القائمة في العالم اليوم؛ إلّا أنّ هذا الإدراك الواسع والعميق لا يبدو، في أحيانٍ كثيرة، أنه يدفع المسؤول إلى مكافحته، اللهم إلّا في حالات نادرة، وفي دول قليلة يمكن عدّها على أقل من أصابع اليدين العشرة.
يذكر أحدث تقارير مؤشّر الفساد الصادر عن "منظمة الشفافية الدوليّة" (تأسست في 1993) أنّ "الفساد ينخر في أكثر من ثلثي دول العالم". وأول من يمارس الفساد هو المسؤول النافذ على وجه الخصوص، حيث يستخدم منصبه وصلاحياته لمكاسبه الشخصية، مُستغلاً الأزمات الكبرى التي تهدّد بلده ومواطنيه، كي "يضرب ويهرب" حسبما يقول اللسان الشعبي.
الدانمارك في طليعة الدول التي بلغت نسبة القضاء على الفساد فيها 80%، تليها نيوزيلندة بـ87%، وحققت كل من سويسرا وفنلندا والسويد وسنغافورة نسبة 85%، ثم ألمانيا بنسبة 80%
وأكثر ما ظهر فساد المسؤولين أخيرا كان مع ظهور وباء كورونا وتفاقمه، حيث تضاعفت عمليات شراء الأجهزة الاستشفائية والأقنعة والمطهّرات والمعقّمات على أنواعها. ولعبت الحكومات دوراً خاصاً وأساسيّاً في إدارة حالات الطوارئ، وفي توفير الاحتياجات اللازمة من خلال مجموعة من التدابير. وفي البلدان التي تسود فيها طبقة حاكمة فاسدة، كانت عمليّات شراء هذه المستلزمات الضرورية تتم بطرق بعيدة كليّاً عن الشفافية والمسؤوليّة. وفي هذا الصدد، يقول المدير الإداري في منظمة الشفافية الدوليّة، دانيال إريكسون: "لسوء الحظ، شكّل الوباء فرصة ذهبية للحكومات الفاسدة". والمعنى أن النكبة الوبائيّة انقلبت إلى "ضربة حظّ" للفاسدين النافذين الذين لم يتوانوا عن اختلاس المال العام، وتكديسه في حساباتهم الشخصية، من دون أن يرفّ لهم جفن تجاه المخاطر التي هبّت تهدّد حياة مواطنيهم. ومن شأن هذا النمط من الانحراف (المحميّ بنفوذ رعاته) أن يتسبّب بتضاؤل حجم الاستثمارات الرسمية في النظام الصحي، فتزداد بذلك معاناة الأفراد وتتضاعف أعداد ضحايا الوباء. وهذا ما شهدناه ونشهده في دول عديدة، حيث ارتفعت بأشكال مخيفة أعداد ضحايا كوفيد 19، بما يُثبت مقولة إن الفساد يقتل.
وكشفت منظمة أوكسفام (اتحاد دولي للمنظمات الخيرية تأسّست في أوكسفورد عام 1942، هدفها النضال من أجل عالم أكثر عدلاً ومساواة ومحاربة للفساد والفقر) أن كبار أغنياء العالم، وعددهم لا يتجاوز الألف اليوم، لم يتضرّروا اقتصادياً من وباء كورونا، بل على العكس ازدادوا ثراء على ثراء. وذكرت المنظمة، في أحدث تقرير لها، نشرته "فرانس برس" في 24 يناير/ كانون الثاني 2021، "يجب أن تشكل أزمة كوفيد 19 منعرجاً مهمّاً فيما يتعلق بالسياسة الضريبية المطبقة على الشركات العالمية والأغنياء الكبار". وفي تدقيق في حسابات 32 شركة عالمية، أنجزته "أوكسفام" خلال فترة وباء كورونا المستمرة، فإن فرض ضريبة عليها كانت لتسهم في جمع 104 مليارات دولار عام 2020، وهو مبلغٌ كاف لتأمين إعانات بطالة لجميع الموظفين والعمال في البلدان متوسطة ومنخفضة الدخل، إضافة إلى الدعم المالي للأطفال وكبار السن. .. وكله في زمن كورونا.
منظمة الشفافية الدوليّة: الأكثر فداحة في انتشار الفساد هي: أنغولا، الصومال، جنوب السودان، تشاد، مالي، نيجيريا وغينيا الاستوائية التي كان رئيسها السابق يقتطع أكثر من 66% من ميزانية الدولة لنفسه
وقد استفادت منظمة أوكسفام من اقتراحات كبار علماء الاقتصاد في العالم، وفي طليعتهم الفرنسي توماس بيكيتي، الذي دعا إلى ضرورة رفع نسبة الضرائب المدفوعة من أغنياء العالم الكبار، ففي ذلك ما يحدّ من الضرر الفادح الذي سبّبته كورونا على الاقتصاد العالمي، وانعكاس ذلك على حياة العاملين في مختلف مجالات العمل، فالفساد يكمن أيضاً في اللامساواة الاجتماعيّة، وفي تحقيق المصالح الشخصية الضيّقة على حساب المصالح العامة.
وآفة الفساد قديمة قِدم وجود النظم والدول في حياة البشر، ولا يزال ينخر ويتوسع كأحد المظاهر المواكبة لعمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً في الدول النامية، حيث يكون على الإدارات الرسمية فيها، مثالاً لا حصراً، توفير ما ينبغي توفيره من مواد ضرورية لدورة الحياة. يتم ذلك، إمّا باستيرادها من الخارج عبر تجار محدّدين (محظيين)، أو بالحصول عليها من الأسواق المحليّة عبر وكلاء "لا يقلّون حظوة"، فللفساد أدواته وأساليبه وكوادره المباشرة والمستترة. وطالما أنّ هناك عمليات تداول صفقات وإبرام عقود لتنفيذ مشاريع كبرى، وخصوصاً من النوع الذي يسيل له لعاب الفاسدين، فلا بدّ أن يكون هناك من كرسي للفساد على طاولة المفاوضات، ومن يحتلّ هذا الكرسي يسعى إلى جعله "مُقونناً" بطريقة ما، ومحميّاً من النافذين المستفيدين، من فوق ومن تحت.
ووفق منظمة الشفافية الدولية؛ تأتي دول أفريقيا جنوب الصحراء في المرتبة الأسوأ في ميدان الفساد ومباذله، إقليميّاً وعالميّاً. ويعتمد مؤشّرها العلمي الذي تُصدره سنوياً على بياناتٍ يجري تجميعها (منذ العام 2004) في الـمائة دولة التي تنشط فيها المنظمة، والتي يعمل خبراؤها حالياً على خطّة علاجيّة ضد "وباء الفساد" مدّتها عشرة أعوام، تضطلع خلالها التكنولوجيا بدور رئيس في كشف الفساد وألاعيب دهاقنته و"استراتيجياتهم" في نهب المال العام والتصرّف به؛ إلّا أن هذا وحده لا يُطمئن، ولن يكون كافياً لقطع دابر الفساد، ولا حتى كبحه والتخفيف منه، إذ يمكن للدوائر المعنية في الدول الغارقة في أحابيل الفساد تحويل هذه التكنولوجيا لمصلحتها، ما يتيح للفساد أن يتوسّع أكثر فأكثر، وتتفاقم شبكاته الأخطبوطيّة على نحو أعقد وأشرس.
هل تحارب الديمقراطية الفساد؟
إذا أخذنا بالاعتبار ما ورد في تقرير منظمة الشفافية الدوليّة، الصادر أخيرا، فسيبدو لنا أن العالم كله يتجه في العام الجاري (2021) نحو مستوى أعلى وأخطر في "بارومتر الفساد" بالقياس إلى العام السابق. وهذا ليس من قبيل المبالغة أو التهويل، بل هو استنتاج اعتمد كالعادة على مسح وتقييم خبراء يرصدون مدى انتشار الرشوة والاختلاس والصفقات المشبوهة وغير القانونية في البلدان التي تعاينها المنظمة. كما يرصدون وجود، أو عدم وجود، قوانين لمكافحة الفساد في الدول المعنيّة، ومدى احترامها، والعمل بها، وتطبيقها، إن وُجدت.
إحدى الملاحظات المهمة للغاية التي سجّلتها المنظمة كانت تتصل بالديمقراطية، فقد تبيّن أنه كلما كانت المجتمعات أكثر ديمقراطيةً وشفافية، زادت قدرتها على مكافحة الفساد. والمعنى أن الديمقراطية تتيح المحاسبة وتحول دون استغلال المسؤول موقعه. وهذا ما هو حاصل بالفعل في دول عديدة ذات النهج الديمقراطي الفعلي، لا اللفظي.
ثمة خطّة علاجيّة تعدّها منظمة الشفافية ضد آفة الفساد تمتد عشر سنوات، تضطلع خلالها التكنولوجيا بدور كبير في عمليات كشف الفساد وألاعيب دهاقنته
على الضفّة الأخرى، أي في الدول غير الديمقراطيّة، طالما أن الفساد مستشرس ومتواصل، ولا يخضع لرقابات جدّية وحاسمة فيها، فستبقى الدول الديمقراطية نفسها، بل العريقة بالديمقراطيّة، مهدّدة، هي الأخرى، بتسرّب الفساد إليها، ذلك أن الفساد بات ظاهرةً معولمةً لا يكاد يخلو مجتمع أو نظام سياسي منها.
السبعة الأوائل
في كل الأحوال، وحتى لا نظلّ في أجواء التشاؤم، وجلد الذات والآخر على السواء، نقول إنّ ثمّة دولاً تُرفع لها قبّعة الاحترام جرّاء ما حققته من نسب عالية على مستوى مؤشر مكافحة الفساد لديها، تأتي الدنمارك في طليعتها، فلقد بلغت نسبة القضاء على الفساد فيها 88%، وهي الأولى في العالم على هذا الصعيد. وفي نيو زيلندا بلغت النسبة 87%؛ وحققت كلٌ من سويسرا وفنلندا والسويد والنرويج وسنغافورة نسبة 85%. وبعد هذه الدول جميعاً تأتي ألمانيا التي نجحت في محاربة الفساد بنسبة 80%. أما الدول التي تعتقد منظمة الشفافية الدوليّة أنها صاحبة المشهدية الأكثر فداحةً في انتشار الفساد وآفاته، فهي الصومال وجنوب السودان ونيجيريا وتشاد ومالي، علاوة على أنغولا وغينيا الاستوائيّة، حيث يتفشّى الفساد في الأخيرة على نحو مذهل وغير مسبوق، إذ يقال إنّ الرئيس الغيني السابق، نغيما بدونغ، كان يستقطع أكثر من 66% من ميزانية الدولة لنفسه، ويترك الباقي لمواطني بلده (نصف مليون نسمة)، بحيث يعيش الفرد منهم على أقل من نصف دولار في اليوم. وتقول أوساط غينية معارضة مقيمة في مدريد (غينيا الاستوائية الدولة الأفريقية الوحيدة التي يتكلم أهلها اللغة الإسبانية) إنّ الوضع الاقتصادي الراهن، والذي ينهشه الفساد، هو على ما كان عليه في السابق، وربما أكثر بعد انتشار جائحة كورونا.
وبالعودة إلى بيانات استطلاعات منظمة الشفافية، سنعرف من مديرها الإداري، دانيال إريكسون، "الوضع في الأعوام الثلاثة الأخيرة كان على تحسّن مستمر في بعض بلدان بعينها، مثل اليونان وميانمار والإكوادور ، بينما يزداد سوءاً، في بلدان أخرى، كلبنان ومالاوي والبوسنة والهرسك".
على سُلّم من 100 نقطة
في قراءة متأنيّة لمؤشر مُدركات الفساد عن العام 2018، الصادر عن منظّمة الشفافيّة الدوليّة، نقع على نتيجة مؤسفة للغاية؛ فقد حصل أكثر من ثلثي الدول الـ180، موضوع المتابعة والدرس، على درجة أقلّ من 50 نقطة (على سُلّم من مائة نقطة)؛ والأسوأ أن الأغلبية الساحقة من الدول الخاضعة للتقويم والتقييم، لم تحقق سوى تقدّم طفيف على صعيد مكافحة الفساد، أو أنها لم تحرز أيّ تقدم يذكر خلال السنوات القليلة الأخيرةُ، في حين أن الدول التي أظهرت بعض التقدّم لم يزد تعدادها عن العشرين دولة.
لكن من المهم أن يُذكر أن المواطنين في أكثر من بلد يعبث فيه الفساد، باتوا يناهضون هذه الآفة المقيتة جهاراً نهاراً، ويرفعون الصوت عالياً ضدّها، مطالبين بالشفافية التامة وملاحقة رموز الفسَدَة ومحاكمتهم واجتثاث شأفتهم. ومن هذه البلدان: منغوليا ورومانيا وغواتيمالا والباراغوي وهاييتي، حيث كشفت احتجاجات شعبية فيها عن غضب واضح إزاء سوء استغلال السلطة الذي يمارسه سياسيون كثر هناك، ويتفنّنون في سعيهم المحموم إلى إبعاد أنفسهم عن المساءلة القانونية القاطعة.
هنتنغتون والفساد
وفي نظرة أبعد مدى، تتجاوز مشكلة الفساد نفسها بوصفها موضوعا أخلاقيا وقانونيا، لتشكّل عبئاً هائلاً على عملية التنمية نفسها، كونه ينتشر في البنى التحتية الزبائنيّة للدولة، كانتشاره تماماً في بناها الفوقية، وذلك بحسب دراسات ميدانية وإحصائية موثوقة. وعليه، من العسير على الدول ذات الأنظمة الاستبدادية أن تنجح في تحقيق أيّ تقدّم يذكر على مستوى مكافحة الفساد وكبح آلياته.
هكذا، فالفساد، ببساطة، يهدّد تأمين الخدمات الحكوميّة الأوليّة والأساسيّة في مجالاتٍ شتّى، في طليعتها الصحة والتعليم ورعاية الشيخوخة وتوفير وظائف جديدة، وهو يستنزف الموارد من صناديق الحكومة في الداخل، وفي الخارج، بالنسبة إلى بعض الدول. كما يزيد من تكلفة السلع والخدمات العامّة، فضلاً عن أنه يترك وقعاً خبيثاً ضاغطاً على الفقراء الذين يضطرّون، في أغلب الأحيان، إلى دفع تكاليف أكبر من مداخيلهم المتواضعة، في مقابل الحصول على خدمات من المفترض أن يتلقّوها مجّاناً.
يرى هنتنغتون أن ظاهرة الفساد صاحبت عمليات التحديث الاجتماعي والاقتصادي في كل من الولايات المتحدة وإنجلترا خلال القرن التاسع عشر، مستنزفة قدراً كبيراً من موارد البلدين الاقتصادية
ولئن حققت دول الاتحاد الأوروبي أداءً أفضل من باقي مناطق العالم في ميدان محاربة الفساد، فإنّ الفضل قي ذلك يعود إلى الوعي المجتمعي العام، وترسّخ الأنظمة الديمقراطية، على الرغم مما شابها ويشوبها من عيوب. غير أن الطريق ما تزال طويلة أمام أوروبا نفسها، ومعها الولايات المتحدة وسائر دول الثورات الصناعية الكبرى (من الثورة الأولى وحتى الرابعة)، لتتمكّن من التصدّي للفساد على النحو المطلوب والأفعل، فالفساد بأي صورة من صوره (حتى المخفّفة منها) يلقي أعباء ثقيلة على الاقتصادات في جميع مراحل التنمية، وخصوصا الأخيرة منها أو المستدامة. يذكر صموئيل هنتنغتون، في دراسةٍ له تحت عنوان: "التحديث والفساد" نشرها عام 1970 أن ظاهرة الفساد صاحبت عمليات التحديث الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في كل من الولايات المتحدة وإنكلترا خلال القرن التاسع عشر، مستنزفةً قدراً كبيراً من موارد البلدين الاقتصادية، والتي يفترض أنها كانت ستصبّ في عمليّات التنمية المختلفة فيهما؛ وقد جاء ذلك انطلاقاً من أن ظاهرة الفساد كانت أقلّ استفحالاً في القرن الثامن عشر. وعلّل هنتنغتون هذه الظاهرة بالتأثيرات الفعّالة التي تركتها الثورة الصناعية، وكذلك نمو المصادر الجديدة للثروة والقوة وظهور طبقة جديدة فرضت نفسها على الجانبين الرسميين الحاكمين في الولايات المتحدة وإنكلترا، عبر مطالب معينة تخصّ مصالحها المباشرة، و"قوننة" هذه المصالح بهذا الشكل الرسمي الملتوي أو ذاك. ولذلك اقتضى الإصلاح، في مراحل لاحقة من القرن العشرين، سيما بعد حدوث خللٍ وتصدّع في الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلدين المذكورين.
علامات مشرقة.. ولكن؟
أياً ما كانت الأحوال، من العلامات المشرقة التي جرى تسجيلها أخيرا، خصوصاً في الدول المسمّاة نامية، انتقال التحدّي في سبيل تحسين نوعيّة إدارة الحكم الرشيد ومكافحة الفساد إلى طليعة النقاش الجدّي والمسؤول حول التنمية ومتطلباتها العملية والقانونية. وهذا الترابط بين جدولَي أعمال "الحكم الرشيد" و"مكافحة الفساد"، أمر إيجابي، طبيعي وواعد وحتمي أيضاً بفضل الديمقراطيات الأكثر شفافية؛ إلّا أنّ إدارة الحكم المستقر لا تقتصر على مجرّد مكافحة الفساد، بل تتعدّاه إلى سياسات الاستخدام الواعي والناجع لمقدّرات الدولة ولمواردها البشرية والمالية وإيجاد بيئةٍ مؤاتية وقوية للنمو والتطور.
كلما كانت المجتمعات أكثر ديمقراطية وشفافية، زادت قدرتها على مكافحة الفساد، فالديمقراطية تتيح المحاسبة وتحول دون استغلال المسؤول موقعه، وهذا ما هو حاصل فعلاً في دول عديدة ذات النهج الديمقراطي الفعلي
ومما يبعث على إنعاش الآمال، ما شهدته العقود الأخيرة من تزايد المعايير العالمية لمكافحة الفساد وسنّ قوانين جديدة للشفافية المالية والمؤسسيّة لمحاربة غسل الأموال، وبشروط أكثر صرامة لمكافحة عمليات النهب "المُشرّع" التي تلازم المساعدات والإقراض، مع ابتكارات لامعة في مجال التحقيق في الفساد واسترداد الأصول المسروقة. وفي المرحلة الراهنة، تنصبّ جهود كثيرة لمكافحة الفساد على كبح عمليات إساءة استخدام المناصب النافذة في الإدارات والدول ومحاربتها، وقمع الرشاوى وملاحقة الشركات الوهمية، والعمل على منع التضارب الصارخ في المصالح، وما سوى ذلك من الأساليب الاحتيالية التي تُحوّل بها الأموال العامة إلى حسابات خاصة، وشلّ قدرات مافيات الفساد والاحتيال على تشكيل نظم قانونية واقتصادية تخدم القلة القليلة من الفاسدين على حساب عموم المواطنين.
شكّل وباء كورونا ضربة حظ للفاسدين النافذين كي يتابعوا "مهام" انحرافاتهم في التزوير واختلاس المال العام وتهريبه إلى الخارج
ولا بد في هذا المجال من ذكر الدور، بل الأدوار التي تضطلع بها منظمة "أنتوساي" على صعيد دعم الأجهزة الرقابية العليا وتمكينها في دولٍ كثيرة، وقد نجحت بنسبٍ لا بأس بها في الحدّ من ظواهر الفساد وتعزيز الشفافية وتحسين الأداءات وضمان المساءلات الجدّية في الدول التي تعمل فيها. وأنتوساي أو "المنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية العامة والمحاسبة"، مؤسسة سيادية مستقلة تتمتع بمنصب استشاري ضاغط لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة. وتقول الأمينة العامة للمنظمة، مارغريت كراكر، بما خلاصته: "إننا نجحنا، بشكل أو بآخر، في الحدّ من ظاهرة الفساد المتمادية، من خلال العمل الحثيث على دفع الحكومات إلى التجديد الدوري الشفاف والقوي لأجهزة الرقابة لديها، وذلك على المستويين، البشري والتكنولوجي، ولا تزال المعركة طويلة، لأن الفساد بات، وأكثر من أي وقت مضى، ظاهرة عابرة للقارّات، وقد زاده عصر العولمة تعقيداً على تعقيد". وأردفت تقول في النشرة الإلكترونية لمجموعة البنك الدولي الصادرة بالإنكليزية في أواخر شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 ما ترجمته إن "التعقيد يشكل حافزاً قوياً وجوهرياً لاستمرار المعركة ضد الفساد المنظّم، طالما أن النتائج ايجابية وواعدة، ولها هيبتها التي يخشاها الفاسدون وغير الفاسدين بالتأكيد".
حاصل القول، المعركة على الفساد وشبكاته في العالم أجمع، طويلة ومفتوحة، وتشبه تماماً الأفق الذي كلما أوغل المرء فيه وجد أفقاً آخر أمامه عليه أن يعبره إلى أفق يليه.. وهكذا. ولعل الأهمية الاستثنائية في هذه المعركة المديدة على الفساد أنها تمثل واحدةً من النقاط الجدّية النادرة التي تلتقي عندها الدول الديمقراطية المتقدّمة مع الدول النامية في عالمنا المتداخل اليوم.