انتهى الماراتون الانتخابي في الهند، والذي جرى على مدى ٣٥ يوماً لانتخاب ٥٤٣ عضواً في مجلس الشعب، "لوك سابها"، بفوز اليمين المتطرف ممثلاً بـ"الحزب القومي الهندوسي (BJP) "بهاراتيا جاناتا"؛ فوزٌ هو الثاني للحزب بعد انتخابات ١٩٩٦، غير أنه جاء بشكل ساحق، ويؤشر إلى إنهاء حكم سلالة غاندي ـ نهرو، التي احتكرت السلطة منذ الاستقلال عام ١٩٤٧.
أفسحت نتائج الانتخابات المجال لحكم القوميين لأكبر ديموقراطية في العالم، والتي تعيش في كنفها حركات متمردة وإثنيات وقوميات وديانات متعددة، لم تستطع أن توحدها يوماً سوى أفكار "بابو" (غاندي)، قبل أن تُطيحها رغبة جامحة بالتغيير، ومشاكل اقتصادية وأمنية.
توقعت جميع استطلاعات الرأي خسارة مدوية لحزب غاندي الحاكم، "المؤتمر الوطني الهندي"، وأن القومي الهندوسي ناريندا مودي سيشكل الحكومة المقبلة، بحصول حزبه "بهاراتيا جاناتا"، على الغالبية، مع حلفائه ضمن "التحالف الوطني الديموقراطي". وقد أظهرت آخر النتائج، يوم الجمعة، حصول الحزب الهندوسي على 279 مقعداً مع حلفائه (بعدما كان ٢٧٥ مقعداً)، أي أكثر بسبعة مقاعد من المعدل المطلوب لتشكيل الحكومة.
كثافة الإقبال على الانتخابات، بدورها، أشارت الى رغبة جامحة بالتغيير، إذ بلغت 66.38 في المئة، أي أكثر من النسبة التي شاركت في انتخابات ١٩٨٤، بعد اغتيال أنديرا غاندي، والتي قُدرت بـ٦٤.٠٤ في المئة. كان الهنود في حينها متعاطفين مع ابنها راجيف، الذي أصبح في ما بعد رئيساً للوزراء.
تنقل صحيفة "نيويورك تايمز"، في تغطيتها للانتخابات الهندية، عن فلاح هندي انطباعاته حول ما آلت إليه الأحوال في البلاد. يعود هذا الفلاح بذاكرته الى العام ١٩٨٤، وتحديداً، إلى اليوم الذي اغتيلت فيه أنديرا غاندي على يد أحد حراسها الشخصيين.
في ذلك اليوم، شعر الفلاح بيأس لم يفارقه لأكثر من عام. بعد سبع سنوات، حمل إليه "الراديو" نفسه، نبأ اغتيال ابن أنديرا، راجيف. شعر حينها بالأسى حيال أبناء راجيف، وتحديداً راوول، المرشح في الانتخابات الحالية.
يسأله مراسل الصحيفة إن كان سينتخب راوول في أميثي (مقاطعة في فايزآباد)، فيبتعد بنظره الى وسط مدينته، ويقول: "ما كان قبل ٣٠ عاماً في أميثي، علق في الزمن، وبقي على حاله. خطفتنا مشاعرنا حيال اثنين منهم (عائلة نهرو غاندي)، وهبوا حياتهم للبلاد، فأعطيناهم أصواتنا في المقابل. لكننا اليوم نريد التغيير".
هكذا، اختار الهنود في تلك المنطقة انتخاب سمريتي إيراني، القومية الهندوسية عن حزب "بهاراتيا"، والتي أظهرت نتائج يوم الجمعة تقدمها على راوول. لقد وجد الهنود ضالتهم في اختيار القوميين، ما رأى الفلاح الهندي أنه يعبّر بوضوح عمّا يريده الهنود في ظل تراكم المشاكل الاقتصادية، واتساع رقعة العنف.
من علمانية متعددة الى قومية عنصرية
قبل ٦٦ عاماً، جلب مشروع غاندي ـ نهرو للهنود، الاستقلال والتحرر من الاستعمار، والحريات الفردية، والتعددية، والمساواة والعدالة الاجتماعية. وحّد بلاداً مترامية الأطراف (السابعة في العالم لجهة المساحة)، وجعل منها دولة نموذجية للتعايش بين إثنيات وأديان (مهد أربعة أديان، الهندوسية والسيخية والبوذية والجاينية، وحاضنة للديانات الزرداشتية والمسيحية واليهودية والإسلامية)، وقوميات متنوعة تتوزّع على مساحة شاسعة، رغم بروز نزعات انفصالية عند المسلمين في أربعينات القرن الماضي أفضت إلى نشوء دولة باكستان ـ بنغلادش. اعتُمد لتحقيق ذلك، نظام ديموقراطي برلماني وعلماني، وإن لم يقضِ على المشاكل التي خلقها الاستعمار بفعل ترسيمه لحدود الكيانات السياسية (نزاعات حدودية مع الصين وباكستان لم تُحلّ بعد).
كان غاندي هندوسياً متديّناً، وحصل على لقب مهاتما، وتعني "روح عظيم"، غير أنه ابتكر عقيدة "أهمسا" بعد مطالعة الكتب الدينية، ليؤسس بعدها فكرة المقاومة السلمية أو "سيتياغراها". تتلمذ نهرو على يد غاندي سياسياً ودينياً، وكان يواظب على أداء اليوغا وقراءة الكتب الهندوسية.
لقد جعل حكم سلالة غاندي ـ نهرو من الهند قوة عسكرية، وأصبحت في مصاف الدول النووية بامتلاكها القنبلة الذرية، وثالث أكبر جيش في العالم، بعدما أنفقت مبالغ طائلة على التسلح، وكانت ثامن دولة من حيث النفقات العسكرية.
بدأ الحلم ينطفئ مع اغتيال المهاتما غاندي، معلّم جواهر لال نهرو، أول رئيس حكومة بعد الاستقلال، بثلاثة رصاصات أطلقها القومي الهندوسي، ناثورم غوتدس، المرتبط بحركة "ماهاسابا" القومية الهندوسية المتطرفة، التي ترفض مبادئ اللاعنف. ثم اغتيال ابنة نهرو الوحيدة، أنديرا غاندي، ثاني رئيسة حكومة في العالم بعد السيرلانكية، سيريمافو باندرانايكا، على يد حارسها الشخصي القومي من طائفة السيخ. جاء الاغتيال ثأراً لاقتحامها مدينة أمر يتسار، حيث تحصن أتباع سينغ بيندرا نويل وبين، في المعبد الذهبي، وهو ما أسفر عن مقتل واصابة واعتقال الآلاف من السيخ.
لقي ابن أنديرا، راجيف عام ١٩٩١، المصير نفسه، واغتيل بتفجير انتحارية تدعى لثينموزي راجاراتنام نفسها، تابعة لنمور التاميل لتحرير إيلام، وهي تحييه بإكليل من الزهور. هكذا حكم نهرو بعد مماته، من خلال ابنته (ما بين أنديرا وأبيها حكم لال باهادور شاشتري) ثم حفيده راجيف، فحزب غاندي "المؤتمر الوطني"، الذي ترأسه اليوم سونيا غاندي، زوجة راجيف. كانت سونيا قد رفضت عقب اغتيال زوجها استلام الحكومة، وتشكلت على الأثر حكومة ائتلافية برئاسة ناراشيمو راو، وظل حزب "المؤتمر" حاكماً حتى صباح هذا اليوم (باستثناء فترة قصيرة عقب انتخابات ١٩٩٦).
الفعل الثوري الذي أحدثه غاندي ـ نهرو إبّان التحرّر من الاستعمار، وصمد مع أحفاد نهرو وحزبه، لم يعد نافعاً لتلبية طموحات الهنود. لقد تراجع، رغم ثقل أفكاره الثورية، في ظل عالم سريع التغيُّر. بحث الهنود عن التغيير فوجدوه عند القوميين الهندوس، اليمينيين. لكن يصعب أن تُحكم دولة الهند، متعددة القوميات والديانات، من قبل يمينيين، لأن من شأن ذلك أن يعزّز النزعات الانفصالية، والصراع الديني والإثني.
هندوسي متطرّف معادٍ للمسلمين وأميركا
ناريندا مودي، المرشح لتولي رئاسة الحكومة، معروف بعدائه للمسلمين الهنود، تشهد على ذلك تصريحاته العنصرية ضد المهاجرين المسلمين من بنغلادش. يُنقل عنه قوله، خلال حملته الانتخابية، إنه على "المتسللين أن يحزموا حقائبهم ويرحلوا"، مضيفاً: "لقد جعلوا الحياة بائسة".
فوز اليمينيين سيعطي دفعاً للحركة الماوية (ناكسال) المتمردة، التي تعتبرها الهند أكبر تهديد للأمن القومي. والماويون هم حركة شيوعية مسلحة ومتمردة، تسعى لجعل الهند دولة شيوعية. بدأ تمردها في إقليم البنغال الشرقي، وانتشر بعده في أكثر من نصف الولايات الهندية الـ٢٨، وتنشط خصوصاً في المناطق الأكثر فقراً، وتشن هجمات ضد أهداف حكومية ومالية وإقطاعية.
نجح مودي في كسب تأييد ملايين الهندوس من خلال تركيزه على الخطاب الديني الهندوسي وإقصاء الآخرين، واستغل الفجوة الطبقية التي ترسخت في الهند بفعل العولمة وليس التقاليد الثقافية ـ الدينية كما في الماضي، وكسب تأييد الفقراء والمتدينين معاً، بما في ذلك دعوته لفرض احترام التقاليد الهندوسية في مناطق المسلمين والمسيحيين، وقدم وعوداً اقتصادية، رآها المراقبون وخصومه على حد سواء بأنها خيالية. ولم ينس توجيه خطاب معادٍ للولايات المتحدة لحشد القوميين، ثأراً من الحظر الأميركي السابق على قيادات الحزب بعد حادثة تدمير مسجد كوجارات العام ١٩٩٢.
ثلاث رصاصات وجهها متطرفون يحملون أجندات قومية نحو المهاتما وأنديرا وراجيف، وأردتهم قتلى. اليوم، وجّه المتطرفون الهندوس الرصاصة الرابعة الى حزب غاندي.