وداعاً ليونارد كوهين.. ولكن

11 نوفمبر 2016
(كوهين في إسبانيا عام 2011، تصوير: كارلوس ألفاريس)
+ الخط -

غيّب الموت ليونارد كوهين، الموسيقي الكندي وصاحب الصوت والألحان والكلمات التي بدت لي دائما وكأنها أمل أخير يخرج من بين الركام ليصر على الحياة على الرغم من حزنه الشديد.

فكوهين، الذي توفي في لوس آنجلس عن 82 عاما، عانى طوال حياته من اكتئابات شديدة لم يحاول إخفاءها وتحدث عنها في مقابلاته. ناهيك طبعاً عن موسيقاه التي بدت وكأنها خرجت من قبو روحه. في واحدة من أشهر أغنية "سوزان" يتجلى أسلوبه الذي يتناول غموض الحياة والحب والجنس والموت، فهذه المواضيع احتلت قدرا كبيرا من موسيقاه وأغانيه:

"سوزان تنزلك إلى بيتها بجانب النهر
يمكنك أن تسمع القوارب تمر، ويمكنك أن تقضي الليل إلى الأبد
وتعرف أنها نصف مجنونة ولكن لهذا تريد أن تكون هناك
وتقدم لك الشاي وتطعمك البرتقال القادم من الصين
وعندما تهم بإخبارها بألا حب لديك لتعطيها
فتدخلك في موجتها
وتدع النهر يجيب بأنك كنت دائما عشيقها

وتريد أن تسافر معها، وتريد أن تسافر أعمى
وأنت تدرك أنها ستثق بك
لأنك لامست جسدها الكامل بعقلك".

لكن العديد من النقاد الموسيقيين يرون أن روعته وخصوصيته لا تتجلى في شعره الموسيقي فحسب، بل لمعرفته وإدراكه بأهمية الجملة الموسيقية المتكاملة ومقدرته على خلقها وعجنها بالشعر. فكلمات أشعاره تُبعث للحياة مع ألحانه وأدائه بروح "سوداوية".

نشر ليونارد كوهين روايتين وعدة دواوين شعر، قبل أن يتجه إلى الموسيقى غناء ولحنا وكتابة. فابن مدينة مونتريال الكندية والمولود عام 1934، لم يحالفه الحظ في عالم الأدب والشعر من ناحية المردود المادي والقدرة على الاعتياش منها في نيويورك، مما أضطره في وسط سنوات الستينيات من القرن الماضي إلى طرق باب الموسيقى من أجل سداد أجرة شقته. ولم تكن تلك أوقاتا سهلة كذلك للموسيقيين في "التفاحة الكبيرة" لكن الحظ كان رؤوفا به.

قمة تلك السوداوية والبراعة في تخليدها تتمثل في ألبومه الأخير "أنت أردته/ا مظلما أكثر" (You wanted darker). في هذا الألبوم الذي صدر قبل شهر تقريبا، يقوم كوهين بتوديع الحياة بنوع من الطمأنينة وبشعر قريب من الصلوات. فكتب موسيقاه الأخيرة تاركا تلك الحياة خلفه وكأنه يستعد للسير في جنازته. ومن بعض كلمات الأغنية التي تحمل اسم الألبوم:

"أردته/ها مظلما أكثر
مليون شمعة حرقت من أجل الأمل الذي لم يأت
ها أنذا هنا، ها أنذا هنا
إنني مستعد أيها الرب..."

يعده نقاد الموسيقى والشعر كوهين واحداً من أهم وأفضل شعراء الأغاني في الغرب إلى جانب بوب ديلان، الحائز على جائزة نوبل للأدب هذا العام. بل إن الرجلين يشتركان بعدة أمور بما فيها النقلة النوعية التي تمكنا من خلالها من أخذ الموسيقى الفولكلورية (Folk Musik)
الأميركية إلى أعماق وتجارب جديدة. وكما هو الحال مع ديلان وتأييده للصهيونية، فإن ليونارد كوهين وللأسف لم يسلم من تلطخه بها.

غنى كوهين في القدس المحتلة عام 1972 ثم مجددا بعد عام في حرب أكتوبر أمام جنود الاحتلال في سيناء من أجل تشجيعهم وتقوية عزائمهم. ولا نستغرب في هذا السياق أن يغرد ما يسمى "رئيس الوزراء الإسرائيلي" بنيامين نتانياهو حول موت كوهين قائلا: "لن أنسى كيف جاء ليغني للجنود خلال حرب الغفران (حرب أكتوبر) لإظهار تضامنه".

هذا التناقض الشديد بين حساسيته ودفاعه عن المواقف الإنسانية وحقوق الإنسان من جهة، وعمائه تجاه خروقات حقوق الإنسان والمجازر وسلب الحقوق بحق الشعب الفلسطيني؛ يعجز أي واعٍ بحقيقة القضية الفلسطينية عن فهمه، سواء لدى كوهين أو لدى غيره. كيف يمكن أن يصبح الفلسطيني وحقوقه غير مرئيين عند هؤلاء.

لم ينته الأمر عند ذلك حيث قرر بعد سنة ونصف من الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة عام 2009، والتي راح ضحيتها آلاف الفلسطينيين بين قتيل وجريح، إحياء حفل موسيقي في فلسطين المحتلة عام 1948 وتحديدا في "تل أبيب". وتجاهل كوهين نداءات حركة المقاطعة العالمية له بعدم الذهاب لإحياء حفل هناك وتسجيل موقف ضد الاحتلال والاستعمار الاستيطاني لفلسطين. ثم تبرع كوهين بريع الحفل لما يسمى "منتدى العائلات الثكلى الفلسطيني- الإسرائيلي من أجل السلام"، معتقدا أنه يمكن غسل موقفه بالمال، ناهيك عن الإشكاليات الأخرى في الجهة التي تم التبرّع إليها.

قد يقول البعض إن الفنان لا يريد أن تخلط مواقفه دائما بالسياسية، ولكن الصمت على الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان هو نفسه موقف وعمل سياسي من الدرجة الأولى. وعند الاستماع إلى موسيقاه لا يمكن طرد تلك الصورة لشخص يمشي في حقل جميل تتوزع فيه الزهور، متجاهلا ضحايا الألغام التي تحوطه وأصحاب هذا الحقل الذين أصبحوا لاجئين مشتتين.. بهذا التناقض والمرارة في الفم نودع موسيقيا عظيما لم يستطع أن يرى أبسط الأمور: حقوقنا.

المساهمون