ما زال الناس في الجزائر يسألون كيف حدث هذا، وكيف قفز حراك فبراير/شباط 2019 على واقع سياسي مأساوي وأنقذ الدولة من مشروع كان يتجه بها نحو الكارثة. ما زال من المبكر الكشف عن كل تفاصيل هذه الثورة الشعبية التي التقت فيها في اللحظة المناسبة، كيمياء من الغضب والاحتقان، مع حالة استبداد سياسي، ومع وجود حالة نضالية مستمرة منذ ما قبل انتخابات 2014 الرئاسية، من قبل مجموعة من الشباب الذي تحمّل عبء الدعوة للخروج إلى الشارع ضدّ ولاية رابعة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وقد كانت في لحظتها مغامرة سياسية لا تُعرف مآلاتها.
لم تكن لثورة فبراير قيادة واضحة أو تنظيم معيّن، فقد كانت عفوية، انخرط فيها الجزائريون من دون تردّد، لكنها ضخّت في المشهد المحلي وجوها شبابية وقيادات ميدانية حرصت بشكل بالغ على الحفاظ، أقصى ما أمكن، على سلمية الحراك ومنع الصدام، وقد عبّر بعضها عن المواقف والخيارات الشعبية، منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2014. وفي ذلك الحين، كان الناشط عبد الوكيل بلام يقود برفقة عدد من الناشطين تظاهرات ووقفات، رفضاً لترشح بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة. لم يوفق الناشطون وقتها، لظروف وعوامل متعددة، في صدّ هذا المشروع السياسي.
نجحت الانتخابات تلك، لكن بلام واصل مع مجموعة من الشباب المسيرة النضالية ضدّ حكم بوتفليقة ومحيطه الرئاسي. وكان بلام، وهو عضو سابق في المجلس الأعلى للشباب، قبل عام 1999، يعمل في الصحافة ويتبع حزباً سياسياً إسلامياً هو "حركة مجتمع السلم"، لكن ذلك لم يمنعه من الالتقاء مع مناضلين تقدميين ويساريين ضمن ما عرف عام 2014 بحركة "بركات". وعشية بدء البروباغندا السياسية في يناير/كانون الثاني 2019، للعهدة الخامسة لبوتفليقة، كان بلام قد توصّل إلى قناعة بضرورة منع حدوث ذلك، وساهم بشكل كبير في التحريض عبر مواقع التواصل الاجتماعي للنزول للتظاهر في 22 فبراير، وسجّل عدداً من الفيديوهات لتحديد أطر ومنتظمات التظاهر السلمي. كما كان صاحب مقطع الفيديو الموجه إلى قائد الجيش الراحل، الفريق أحمد قايد صالح، في بداية مارس/آذار الماضي، والذي دعاه فيه لدعم الحركة الشعبية والتخلي عن نظام بوتفليقة.
كانت السلطات تتابع بلا شكّ حركة بلام. وصباح 22 فبراير من العام الماضي، كانت أجهزة الأمن قد رصدته قرب الساحة المركزية التي كان مقرراً أن تبدأ فيها التظاهرات، حيث تمّ اعتقاله قبل وصوله إليها من داخل متجر للشاي. لم يكن بلام وحده، فقد كان معه رفيقه في النضال سفيان هداجي، أحد الناشطين البارزين في المجموعة الأولى التي دعت لإطلاق الحراك الشعبي. وعلى الرغم من قلّة ظهوره عبر شاشات التلفزة، إلا أنّ هداجي أبدى قدرة خلال فترة الحراك الشعبي على حثّ الشباب على التظاهر بسلمية، وعلى رعاية أسر الناشطين المعتقلين.
ويبرز في الحراك الشعبي كذلك، وجه حقوقي ربط محاكم الجزائر شمالها بجنوبها، وهو المحامي عبد الغني بادي، الذي كان شارك أيضاً في تظاهرات مارس 2014، ضدّ العهدة الرابعة، واعتقل أكثر من مرة بسبب مواقفه. وسخّر بادي جهداً ووقتاً كبيرين خلال فترة الحراك الشعبي، للتطوع والتنقل بين مختلف محاكم الجزائر وعلى حسابه الخاص، من أجل الدفاع عن ناشطي الحراك الذين كانت تعتقلهم السلطات وتحيلهم للقضاء بتهم التجمهر أو غيرها، ما دفع الحراك الشعبي إلى تكريمه بـ"درع الحراك" خلال تظاهرات الجمعة 49 في العاصمة الجزائرية.
وخلال الفترة الأولى للحراك الشعبي، اهتدى الناشط حسين بزينة، الذي اعتقل أكثر من مرة بسبب نشاطه في الحراك، إلى فكرة خلق منبر للخطباء، إذ استقدم مكبرات صوت وميكروفون يتداول عليه الخطباء في التظاهرات، لتوجيه رسائل سياسية أو الحديث عن مطالب الحراك. واشتهر حسن بزينة، بصورة انتشرت عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، إذ رفع في الجمعة الثانية للحراك، لافتةً كتب عليها رسالة إلى زوجته، يدعوها فيها إلى الصبر لعدم تمكنه من الحصول على مسكن، فيما نشط رفيقه الناشط عز الدين زحوف، بشكل كبير في تأطير شباب الأحياء الشعبية وكتابة الشعارات السياسية خلال الحراك.
ربما كان الاعتقال في الفترة الأخيرة أكثر ما دفع بسمير بلعربي إلى الواجهة، لكن هذا الناشط لم يكن بحاجة إلى ذلك ليصبح معروفاً كوجه حراكي، فهو من المجموعة نفسها التي قادت احتجاجات عام 2014 ضدّ بوتفليقة. وهو ناشط سياسي انتمى سابقاً إلى حزب إسلامي (حركة النهضة)، وشارك في تأسيس حركة "بركات" ضدّ العهدة الرابعة. وكان بلعربي يقترب من لحظة اليأس من التغيير، قبل أن يندلع حراك 22 فبراير الذي أعاد له الروح النضالية، إذ برز ميدانياً كمساهم في تأطير الحراك وفي اجتماعات قوى المعارضة التي كانت تبحث سبل دعم الثورة الشعبية.
لكل ميدان ثورة وجوه. ووجوه الحراك في مدن الصحراء الجزائرية يتقدمها محاد قاسمي، وهو مناضل مدني في منطقة أدرار جنوبي البلاد، قاد عام 2015 حراكاً شعبياً ضدّ محاولة الحكومة التنقيب عن الغاز الصخري. وقبل ذلك، عارض العهدة الرابعة لبوتفليقة. وقد كلفته هذه المواقف اعتقالات وملاحقات في أكثر من مرة، لكنه استغل نشاطه في التأطير المدني، لصالح الحراك الشعبي منذ اندلاعه في فبراير 2019.
وفي مدينة ميلة الصغيرة شرقي الجزائر، يبرز وجه شاب آخر من نشطاء الحراك الشعبي، هو نذير كلوز، الذي آمن بالحراك وبالقضية السياسية. قاد كلوز الحراك الشعبي في مدينته منذ فبراير، وقد كلفه ذلك أيضاً ملاحقة أمنية وقضائية انتهت بإعلان براءته من تهم كانت قد وجهت إليه، وذلك في ديسمبر/كانون الأول الماضي. ومثله كانت وجوه شبابية متمردة على الأوضاع السياسية في قلب الحراك الشعبي، كإبراهيم لعلامي في ولاية برج بوعريريج، والحاج غرمول في ولاية معسكر غربي البلاد.
ومثلما دفع الحراك الشعبي بوجوه شبابية لم تكن لبعضها سوابق نضالية، وخصوصاً في أوساط الطلبة، فإنه أيضاً وفّر فرصة هامة لشخصيات سياسية وحقوقية عانت من التضييق السياسي للبروز مجدداً في المشهد، كالمحامي مصطفى بوشاشي، والمناضل لخضر بورقعة، القيادي البارز في ثورة تحرير الجزائر. والأخير استعاد خلال الحراك حيويته النضالية، ونزل إلى الشارع لدعم الحركة الشعبية. كما برز الناشط السياسي الشاب كريم طابو، وهو سكرتير سابق لجبهة القوى الاشتراكية. وكذا الأستاذ الجامعي فوضيل بومالة. وقد تعرّض النشطاء الثلاثة الأخيرون للاعتقال، إذ أفرج عن بورقعة، بينما لا يزال طابو وبومالة رهن السجن.