"عبقري الألم"، هي الصفة الأقرب للشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب، الذي امتلأت حياته، مثل قصائده، بمرارة مزمنة ناتجة عن فقره ومرضه وعدم قدرته على الاندماج في حياة اجتماعية عادية. تضاف إلى ذلك مرارة سببها رفاقه القدامى من الشيوعيين وتضييقهم عليه بعد تركه الحزب.
ردّ السيّاب كان قوياً، وإن منفعلاً ومرتجلاً، في مقالات عديدة نشرها في جريدة "الحرية" عام 1959، وصدرت قبل سنوات قليلة في كتاب بعنوان "كنت شيوعياً" (منشورات الجمل). يهاجم الشاعر الشيوعية والشيوعيين في بلده، ويظهر رعونة لا تليق بمكانة شاعر مجدّد مثله.
هجوم السيّاب في المقالات، المليئة بالاستخفاف بالشيوعيين، والتشكيك بصدق نواياهم ووطنيتهم، يقوم على ثلاثة عناصر أساسية، أولها لاوطنيتهم واشمئزازهم من القومية، التي علّق عليها في أكثر من مناسبة، كموقفهم المتذبذب، بحسب رأيه، من قضية فلسطين وتبعيّتهم العمياء للاتحاد السوفييتي. ثانياً، يشير الشاعر إلى تفسخهم الأخلاقي، وانكبابهم على شرب الكحول والجنس. وأخيراً، لم تفلت منه مناسبة من دون الإشارة إلى إلحادهم وعداوتهم للدين ومحاربتهم له.
التوقف عند هذه الأمور والكتابة عنها بأسلوب كاتب مقالات من الدرجة العاشرة، تجعلنا نستغرب غياب الحساسية الشعرية عند صاحب "المومس العمياء" في مقالاته، ونفوره من الحرية الفردية التي تتلازم دائماً في قصائده مع صيرورة الألم. وهو، إضافة إلى ذلك، لا يتوقف في هذه المقالات عن كيل المديح لعبد الكريم قاسم، وخلع الصفات البطولية عليه، من القائد العظيم، إلى العبقري، وحتى نعته بالمقدام المظفر؛ ممّا يقلّل من قيمة شخص يهاجم غيره لتبعيته ولا يتوانى هو من إظهار التبعية ذاتها نحو سلطة أخرى.
المقالات لا تخفي أسلوب صاحبها الفضائحي الذي لا يتوخى الدقة عند مهاجمته للشيوعيين، وتبنيه للكثير من الشائعات، وحتى النكات، معتبراً إياها قد حدثت فعلاً. ويُستغرب أيضاً منه - باعتباره كان "رفيقاً شيوعياً" نشيطاً - ألا يكون دقيقاً في معلوماته عن الشيوعية، كأن ينسب عبارة "يا عمّال العالم اتحدوا" إلى لينين، أو أن يعتبر الأخير يهودياً.
وهو بكل الأحوال لا يخفي اعتقاده بنظريات المؤامرة، بل يسوق الحجج ويلوي عنق الحقيقة لإثباتها. فإضافة إلى اعتبار لينين يهودياً (وهو يستخدم الصفة بصيغة أقرب إلى الشتيمة)، يقول عن ماركس إنه يهودي "تظاهر- كذباً ورياء- بتغيير دينه اليهودي، واعتناق المسيحية".
وأيضاً تحدث بكل ثقة عن "جماعة من الأطباء اليهود في الاتحاد السوفييتي" قتلوا مكسيم غوركي وغيره من الشخصيات البارزة. وهذا كله ليؤكد على المشروع اليهودي باختراق الحزب الشيوعي العراقي، والتأثير على الشعب وإبعاده عن قوميته وقضاياه الأساسية.
في المقابل، لا يمكن إنكار محاربة الشيوعيين له ولشعره، سواء أثناء كتابته تلك الاعترافات أو قبلها، حين ترك صفوف الحزب. على ضوء ذلك، يمكن تفهّم بعض من مرارة السيّاب تجاه رفاقه الشيوعيين، سيما الشعراء منهم، والذين لم يبخلوا عليه أيضاً بالعداء، كعبد الوهاب البياتي، الذي سخر السياب، في إحدى مقالاته، من عدم تمكنه من اللغة العربية.
إننا أمام كتاب "اعترافات" من شاعر كان شيوعياً ذات يوم ثم أصبح قومياً. حكايات قد تساهم في استعادة تفاصيل من تاريخ العراق السياسي، ولكنها أيضاً مليئة بالترّهات، ما يجعلنا نواجه قضية لا ننفك نحاول نفيها، أو تجنبها، وهي التمييز بين نتاج الفنان الإبداعي من جهة، ومواقفه العامة وحياته الشخصية من جهة أخرى. وهو أمر يصعب القيام به، أو الاعتراف بحقيقته. إلا أن الأمور لم تكن إلّا كذلك.