16 أكتوبر 2024
وثيقة الشعب العراقي تسقط وثيقة الأحزاب
أحرق متظاهرو ساحة التحرير في بغداد وسط هتافات "هذا الشعب كله عرف هذي الوثيقة بلا شرف" الورقة التي صدرت عن اجتماع 12 حزبا وكتلة سياسية، وسميت "وثيقة الشرف"، تضمّنت إجراء أربعين إصلاحا تتعلق بمطالب المتظاهرين في العراق، أمهلت حكومة رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، تنفيذها خلال 45 يوما أو الاستقالة. ولعل الهتاف الذي صرخ به مئات المتظاهرين أعلاه، وهم يحرقون مجسّما لبنود الوثيقة، يعكس رد الفعل الحاد الذي أحدثته حزمة الوعود الحزبية غير الجديدة، بل والمكرّرة.
اعتبر المتظاهرون الوثيقة إجراءً إضافيا للضحك عليهم، واستهزاء بمطالبهم، واستفزازا لمشاعرهم، لأنها ليست المرّة الأولى التي تطرح الأحزاب مثل هذه الوثائق، فقد سبق وأصدرت عديدا مثلها في الحكومات المتعاقبة، من دون أي تفعيل ولو بسيطا لبنودها يستجيب لمطالب إنهاء الفساد أو معالجته، والقيام بإصلاحات في قطاعات الدولة المنخورة. لقد استبشر العراقيون، بداية الأمر، بحكومة حيدر العبادي السابقة، حينما قال إنه سيضرب الفاسدين بيد من حديد، وإن محاربة الفساد ستكون من أولويات حكومته، ولكنه بعد الخطوات الأولى لإقالة مستشاري رئيس الجمهورية الثلاثة التي باءت بالفشل بقرار المحكمة الدستورية، انقلب على وعوده، وصمت مفسحا المجال لاستمرار الأوضاع كما كانت عليه. أما خلفه عادل عبد المهدي فقد انكشف ضعفه، وارتباك تشكيل حكومته للقيام بإدارة الدولة، منذ الأيام الأولى ليصبح هدفا للانتقادات الواسعة والاحتجاجات من البصرة إلى الموصل. ولاستعادة بعض المصداقية، بادر
بالكلام من جديد كما سلفه عن الفساد، لعله يكون قارب نجاة له، لاستمراره رئيسا للوزراء، لكنه حصد، ومعه كل أحزاب العملية السياسية، ثورة تتقدّم يوميا من أجل قلع جذور التدمير الذي ينهش بالعراق وشعبه.
أهم ما في بنود الوثيقة هذه التي اعتبرها المتظاهرون بائسة، وغير مجدية، ما يتعلق "بتعديل قانون الانتخابات" المقترح من أجل توفير فرص "متكافئة" لفوز مرشحين مستقلين، لا ينتمون لأحزاب العملية السياسية. ولكن هذا التعديل، بحسب خبراء القانون، لا يأتي بجديد، ولا بإضافاتٍ كبيرة، من شأنها أن تقلب موازين القوى في الانتخابات. لأن السماح لعدد بسيط من المرشحين المستقلين بخوض الانتخابات ودخول البرلمان سيُبقي، في كل الأحوال، هيمنة الأحزاب الموجودة في العملية السياسية والتحكم الكامل بها. ولا يتصدّى هذا التعديل للمشكلة البنيوية الطائفية والعرقية التي أسّس لها الحاكم الأميركي، بول بريمر، في تشكيله مجلس الحكم، ولا لمشكلة التمثيل والمشاركة في العملية السياسية، بل تم في هذه الوثيقة وضع رتوش غير مؤثرة عبر عدد قليل لا معنى له من المستقلين، ليتأكد أن أحزاب العملية السياسية الطائفية لن تمرّر، ولن توافق على أي تغيير يضع هذه العملية في خطر، ولن تقوم إلا بإصلاحات طفيفة لذر الرماد في العيون.
أما بخصوص بند إنشاء مفوضية جديدة للانتخابات فهو الآخر موضع شك، فعلى الرغم من وجود متخصصين "محايدين" فيها إلا أنها لم تستثن من المحاصصة الطائفية، وتعيين مقربين من الحكومة لفرض التحكّم المباشر لعملها. وينطبق الأمر كذلك على تعيين بعض الوزراء من
خارج الأحزاب. ومثل التعديلات الأخرى، لن يؤثر هذا الأمر على النهج الحكومي والحزبي، ولا على بقاء الفساد، لأنهم سيتبعون برنامج الأحزاب والكتلة الكبيرة، ولن يتمكّنوا من التغيير أو التأثير على مجرى الأمور. هذه الوثيقة وبنودها وتشكيل البرلمان أخيرا لجنة تعديل الدستور من أشخاصٍ لا يوجد بينهم أي مختص قانوني وحقوقي ومشرّع، وبعض منهم لا يحمل إلا الشهادة الإعدادية، ومعظمهم من أعضاء البرلمان المرفوض شعبيا، ما يعطي مثلا على أن الأحزاب، ومعها الحكومة، غير جادين في أي إصلاح حقيقي، يستجيب لمطالب المتظاهرين الثوار.
أما أسوأ ما في بنود الوثيقة بحق العراقيين الذين ربما يكون سبب الهتاف الحاد والشاتم للمتظاهرين في التحرير هو الذي "تحث" فيه الأحزاب والكتل صاحبة المليشيات التي تقتل العراقيين، والتابعة للحرس الإيراني، "الحكومة والجهات الأمنية على تحديد الجهات التي قتلت المتظاهرين، واستهدفت الأجهزة الإعلامية"، فالصغير والكبير يعلم اليوم أن من يقتل العراقيين هي الحكومة وأحزابها ومليشياتها التابعة للحرس الإيراني وعناصر إيرانية تم القبض عليها أخيرا.
لقد رأى المتظاهرون في وثيقة شرف الأحزاب هذه مناورةً فاضحةً ومكشوفةً لكسب الوقت والإصرار على التفرّد بالسلطة "بعد ما ننطيها". وكان يمكن أن يكون اجتماع الأحزاب هذا فرصة للاستماع لمطالب الشعب، والوصول إلى حلول تؤدي إلى التهدئة أو التفاوض بشأن إجراءاتٍ تستجيب لجزء من المطالب، وبشكل جدي، خصوصا أن ما يحصل اليوم ليس مجرد احتجاجاتٍ موضعية لمطالب خدمية فقط، بل إنها ثورة تطالب بإسقاط النظام السياسي كاملا،
ببرلمانه ودستوره، واستعادة العراق من براثن الأحزاب والدول الداعمة لها التي أكلت الأخضر واليابس. وبالتالي، ما تسمّى وثيقه الشرف هي مكياج لسياسة الفساد وإجماع حزبي غرضه المماطلة والتسويف، وإسناد لحكومة عادل عبد المهدي (المستقبل لاحقا) وللمليشيات، بدليل أن هذه الأحزاب والكتل لم تطالب بكشف قتلة المتظاهرين العزّل، ولا بإيقاف العنف ضد التظاهرات السلمية التي يقرّها الدستور.
كيف إذن لأقلية حزبية وفئوية، يعترف أعضاء فيها علنا باستلامهم الملايين واستحواذهم على مليارات أن تتصدى للفساد؟ كيف لأقلية جعلت العراق يصنف، منذ سنوات، من أوائل دول الفساد، وعاصمته من أسوأ عواصم العيش، أن تقوم بإصلاحات؟
أما وثيقة الشعب السامية فقد ولدت من رحم الآم ومعاناة ملايين العراقيين، قدّموا أرواحهم ودماءهم ودموعهم، ليعلنوها بخروجهم، مطالبين بعزل الطبقة السياسية وكل أحزابها التي جاءت بعد 2003، ليكون هذا الخروج الوثيقة الاستحقاق استفتاءً ثوريا وعفويا وديمقراطيا وشرعيا بكل المقاييس لكل المطالب، استفتاء أسقط مفهوم حكم الأقلية الحزبية والطائفية وأبطله، لكي يؤسّس لحكم الشعب من حكومة وبرلمان منتخبين. وأسست الملايين التي ما تزال تفترش الساحات والشوارع لشرعية حكم المواطنة الذي يساوي بين المواطنين، من دون تمايز عرقي أو طائفي، وهي ترفع راية العلم العراقي فقط. وثيقة المطالب العشرين التي كتبها الثوار استهلت بمطلب إسقاط الحكومة، وحل البرلمان، ونظام حكم رئاسي، ولحكومة مؤقتة تهيئ لانتخابات مبكرة بإشراف أممي لتؤسس لديمقراطية غير مشوهة، يتم في إطارها تداول للسلطة بشكل أوسع، وطالبت بمحاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين، وبحل المليشيات والأجهزة الأمنية وفقا للقانون والدستور على عكس من يتلاعب بها، ويدّعي تمسّكه بالدستور. كما طالبت هذه الوثيقة بإبعاد المؤسسة الدينية عن التدخل في السياسة، وتجريم الطائفية، لمنع هيمنة الخطاب الديني على القرار الحكومي، وتشكيل مجلس قضاء وهيئة للنزاهة وتأسيس جيش عراقي ومحاسبة الفاسدين، واسترجاع أموال العراق المنهوبة، وإلغاء كل الامتيازات التي تتمتع بها الرئاسات الثلاث، وإلغاء كل الدرجات الخاصة.
هذه وثيقة الشعب المعمّدة بدم الشهداء من الشباب الذين قدّموا أرواحهم فداء لوطنهم، وما زالوا يقدمون. هي وثيقة الحياة أولا ووثيقة الإنسان الحر، وثيقة الوطن والحرية والمبادئ، ووثيقة القيم الإنسانية العليا. الوثيقة السامية التي أينعت بالتضحية والشجاعة والاستبسال، ليولد منها بلد حديث، وتنجز منها مواطنة ديمقراطية، تبطل كل ما عداها من وثائق الخديعة.
أهم ما في بنود الوثيقة هذه التي اعتبرها المتظاهرون بائسة، وغير مجدية، ما يتعلق "بتعديل قانون الانتخابات" المقترح من أجل توفير فرص "متكافئة" لفوز مرشحين مستقلين، لا ينتمون لأحزاب العملية السياسية. ولكن هذا التعديل، بحسب خبراء القانون، لا يأتي بجديد، ولا بإضافاتٍ كبيرة، من شأنها أن تقلب موازين القوى في الانتخابات. لأن السماح لعدد بسيط من المرشحين المستقلين بخوض الانتخابات ودخول البرلمان سيُبقي، في كل الأحوال، هيمنة الأحزاب الموجودة في العملية السياسية والتحكم الكامل بها. ولا يتصدّى هذا التعديل للمشكلة البنيوية الطائفية والعرقية التي أسّس لها الحاكم الأميركي، بول بريمر، في تشكيله مجلس الحكم، ولا لمشكلة التمثيل والمشاركة في العملية السياسية، بل تم في هذه الوثيقة وضع رتوش غير مؤثرة عبر عدد قليل لا معنى له من المستقلين، ليتأكد أن أحزاب العملية السياسية الطائفية لن تمرّر، ولن توافق على أي تغيير يضع هذه العملية في خطر، ولن تقوم إلا بإصلاحات طفيفة لذر الرماد في العيون.
أما بخصوص بند إنشاء مفوضية جديدة للانتخابات فهو الآخر موضع شك، فعلى الرغم من وجود متخصصين "محايدين" فيها إلا أنها لم تستثن من المحاصصة الطائفية، وتعيين مقربين من الحكومة لفرض التحكّم المباشر لعملها. وينطبق الأمر كذلك على تعيين بعض الوزراء من
أما أسوأ ما في بنود الوثيقة بحق العراقيين الذين ربما يكون سبب الهتاف الحاد والشاتم للمتظاهرين في التحرير هو الذي "تحث" فيه الأحزاب والكتل صاحبة المليشيات التي تقتل العراقيين، والتابعة للحرس الإيراني، "الحكومة والجهات الأمنية على تحديد الجهات التي قتلت المتظاهرين، واستهدفت الأجهزة الإعلامية"، فالصغير والكبير يعلم اليوم أن من يقتل العراقيين هي الحكومة وأحزابها ومليشياتها التابعة للحرس الإيراني وعناصر إيرانية تم القبض عليها أخيرا.
لقد رأى المتظاهرون في وثيقة شرف الأحزاب هذه مناورةً فاضحةً ومكشوفةً لكسب الوقت والإصرار على التفرّد بالسلطة "بعد ما ننطيها". وكان يمكن أن يكون اجتماع الأحزاب هذا فرصة للاستماع لمطالب الشعب، والوصول إلى حلول تؤدي إلى التهدئة أو التفاوض بشأن إجراءاتٍ تستجيب لجزء من المطالب، وبشكل جدي، خصوصا أن ما يحصل اليوم ليس مجرد احتجاجاتٍ موضعية لمطالب خدمية فقط، بل إنها ثورة تطالب بإسقاط النظام السياسي كاملا،
كيف إذن لأقلية حزبية وفئوية، يعترف أعضاء فيها علنا باستلامهم الملايين واستحواذهم على مليارات أن تتصدى للفساد؟ كيف لأقلية جعلت العراق يصنف، منذ سنوات، من أوائل دول الفساد، وعاصمته من أسوأ عواصم العيش، أن تقوم بإصلاحات؟
أما وثيقة الشعب السامية فقد ولدت من رحم الآم ومعاناة ملايين العراقيين، قدّموا أرواحهم ودماءهم ودموعهم، ليعلنوها بخروجهم، مطالبين بعزل الطبقة السياسية وكل أحزابها التي جاءت بعد 2003، ليكون هذا الخروج الوثيقة الاستحقاق استفتاءً ثوريا وعفويا وديمقراطيا وشرعيا بكل المقاييس لكل المطالب، استفتاء أسقط مفهوم حكم الأقلية الحزبية والطائفية وأبطله، لكي يؤسّس لحكم الشعب من حكومة وبرلمان منتخبين. وأسست الملايين التي ما تزال تفترش الساحات والشوارع لشرعية حكم المواطنة الذي يساوي بين المواطنين، من دون تمايز عرقي أو طائفي، وهي ترفع راية العلم العراقي فقط. وثيقة المطالب العشرين التي كتبها الثوار استهلت بمطلب إسقاط الحكومة، وحل البرلمان، ونظام حكم رئاسي، ولحكومة مؤقتة تهيئ لانتخابات مبكرة بإشراف أممي لتؤسس لديمقراطية غير مشوهة، يتم في إطارها تداول للسلطة بشكل أوسع، وطالبت بمحاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين، وبحل المليشيات والأجهزة الأمنية وفقا للقانون والدستور على عكس من يتلاعب بها، ويدّعي تمسّكه بالدستور. كما طالبت هذه الوثيقة بإبعاد المؤسسة الدينية عن التدخل في السياسة، وتجريم الطائفية، لمنع هيمنة الخطاب الديني على القرار الحكومي، وتشكيل مجلس قضاء وهيئة للنزاهة وتأسيس جيش عراقي ومحاسبة الفاسدين، واسترجاع أموال العراق المنهوبة، وإلغاء كل الامتيازات التي تتمتع بها الرئاسات الثلاث، وإلغاء كل الدرجات الخاصة.
هذه وثيقة الشعب المعمّدة بدم الشهداء من الشباب الذين قدّموا أرواحهم فداء لوطنهم، وما زالوا يقدمون. هي وثيقة الحياة أولا ووثيقة الإنسان الحر، وثيقة الوطن والحرية والمبادئ، ووثيقة القيم الإنسانية العليا. الوثيقة السامية التي أينعت بالتضحية والشجاعة والاستبسال، ليولد منها بلد حديث، وتنجز منها مواطنة ديمقراطية، تبطل كل ما عداها من وثائق الخديعة.
مقالات أخرى
27 سبتمبر 2024
02 سبتمبر 2024
16 اغسطس 2024