في أبريل/ نيسان عام 2000، اجتمعت في العاصمة السنغالية، داكار، حوالي 1100 شخصية قيادية من 164 بلداً في العالم، ليشاركوا في المنتدى العالمي للتربية. وقام المشاركون في هذا المنتدى بتوقيع وثيقة شعارها: "التعليم للجميع: الوفاء بالتزاماتنا الجماعية". وشملت الوثيقة ستة أهداف، وهي:
1- توسيع وتحسين الرعاية والتربية على نحو شامل في مرحلة الطفولة المبكرة.
2- تمكين جميع الأطفال من الحصول على تعليم ابتدائي جيد مجاني وإلزامي.
3- أن يشمل التعليم الصغار والراشدين بشكل متكافئ.
4- تحسين 50 في المئة من مستويات محو الأمية للكبار.
5- إزالة أوجه التفاوت بين الجنسين في مجال التعليم الابتدائي والثانوي.
6- التحسين النوعي للتعليم وضمان الجودة والنتائج الملموسة للجميع.
2015.. وعد لم يتحقق
والجدير بالذكر أن الموقعين على الوثيقة، من قيادات حكومية وسياسية وأهلية ودولية، قد حددوا عام 2015 تاريخاً للوفاء بهذا الالتزام الجماعي. وها هو قد جاء عام 2015 ولم يتحقق الوعد، بل إننا نرى بأعيننا ما آل إليه الأمر بشأن التعليم للجميع، سواء على مستوى العالم أجمع، أم على مستوى العالم العربي، حيث نرى مظاهر الحرمان من التعليم للجميع واضحة جلية لا يخطئها البصر ولا البصيرة.
والملفت للانتباه أن هذه النتيجة التي وصلنا إليها الآن ليست مفاجئة، فقد جاء تقرير الأمم المتحدة لرصد ما وصل إليه "التعليم للجميع" في عام 2011 (أي قبل الآن بأربع سنوات)، ليلفت انتباهنا إلى أن المسار قد انحرف، وأن الأهداف تتباعد عن أنظارنا، وأن الحكومات والمجتمع الأهلي والدولي قد تخلوا كثيراً عن "الوفاء بالتزامتهم الاجتماعية" التي وقعوا عليها في داكار.
تقرير الأمم المتحدة لعام 2011 ـ الذي نتناوله في هذا المقال ـ حاول أن يكون جرس إنذار يلفت أنظار العالم لما وصل إليه "التعليم للجميع"، لعلّ الانحراف يتوقف، ولعل المسار يستقيم، ولكن على ما يبدو أن هذه الإنذارات لم تجد مستمعاً لها.
الهدف الأول: الرعاية والتربية في الطفولة المبكرة
من المعروف أن سوء التغذية له عواقب وخيمة على مستوى التعليم، حيث إنه يؤثر على قدرة الأطفال على التحصيل والاستيعاب، و يؤثر سلبياً على معظم قدراتهم المعرفية ونموهم الإدراكي. هذا بالاضافة إلى أن التدهور الصحي للأطفال يمنعهم من الالتحاق أو الالتزام بالدراسة، أو استكمالهم مسارهم التعليمي، أو على أفضل التقديرات فإنه يؤثر على مستوى كفاءتهم الدراسية واستفادتهم من الانخراط في التعليم.
وتعتبر نسبة وفيات الأطفال تحت سن الخامسة مؤشراً كاشفاً يعكس مدى الاهتمام بصحة الطفل في المرحلة الأولى من العمر، حيث نجد أنه رغم انخفاض حالات الوفاة بين الأطفال دون الخامسة من 12.5 مليوناً في 1990 إلى 8.8 ملايين في 2008، إلا أن هذا المعدل لا يزال بعيداً جداً عن الهدف المنشود في 2015، وذلك لأن هناك 19 دولة فقط من 68 دولة في العالم ذات المعدلات الأعلى لوفاة الأطفال فيها، هي التي نجحت في خفض وفيات الأطفال بالمعدل الذي يتماشى مع الأهداف الإنمائية للألفية وهي خفض وفيات الأطفال إلى الثلثين حتى عام 2015، أما باقي الدول فلم تحقق التقدم المطلوب.
تعليم الأمهات
على الجانب الآخر، هناك عامل في غاية الخطورة يؤثر على مرض أو وفاة الأطفال دون الخامسة، وهو تعليم الأم. ويعبّر تقرير الأمم المتحدة عن تلك الحقيقة بأسلوب مؤثر، حيث يقول: "هناك علاج مدهش يمكنه خفض نسبة انتقال فيروس ضعف المناعة البشرية من الأم للطفل، ويساعد في إنقاذ أرواح 370000 طفل سنوياً، هذا العلاج اسمه: تعليم الأمهات!!".
وبالتالي، فإن تعليم الأمهات هو أحد عناصر المعادلة التي تؤثر على صحة الطفل والتي تؤثر بدورها على الرعاية والتربية في الطفولة المبكرة التي هي أول أهداف داكار من أجل "التعليم للجميع".
الهدف الثاني: تعميم التعليم الإبتدائي
كانت هناك بعض البدايات الطيبة التي تنبئ بإمكانية الوصول لهذا الهدف، ولكن مع الوقت تباطأت الخطى ثم تراجعت للخلف. فعلى سبيل المثال، نجد أنه في عام 2000 كان عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس الابتدائية 106 ملايين طفل، انخفض إلى 67 مليون طفل في 2008، وهذا تطور إيجابي قد شهده النصف الأول من العقد السابق. ولكن العكس قد حدث في النصف الثاني من العقد نفسه، حيث إن انخفاض معدل الأطفال غير الملتحقين بالمدارس قد تراجع إلى النصف، وهذا معناه أنه إذا استمر المعدل على المنوال نفسه، فسيصل عدد الأطفال غير الملتحقين بالتعليم الابتدائي إلى 72 مليون طفل في 2015، أي أكثر من عددهم في 2008، وكأن القاطرة تعود للوراء!!
ومع النظرة الفاحصة لهذا التقهقر في الالتحاق بالتعليم الأساسي، نجد أنه حتى لم يحدث على نحو متساِو بين الطبقات المختلفة، فنجد مثلاً أن نصف الأطفال والمراهقين الذين لم يلتحقوا بالتعليم الابتدائي في باكستان عام 2007 هم من الطبقة الفقيرة فقراً مدقعاً، بينما لم يتأثر الأغنياء بالدرجة نفسها. ومن جانب آخر، لا تنتهي المشكلة عند الالتحاق بالمدرسة، حيث يواجه العالم المشكلة الأكبر وهي التسرّب من الدراسة لأولئك الذين التحقوا بالمدرسة بالفعل. ففي جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا يتسرب سنوياً حوالي 10 ملايين طفل. فإذا وضعنا التزايد في نسب الالتحاق بالمدارس، إلى جانب نسب التسرب، إلى جانب الفروق الطبقية القاسية في هذه المساحة، نجد أننا نبتعد كثيراً عن أهداف "التعليم للجميع".
الهدف الثالث: التعليم العالي
رغم أن هذا الهدف شديد الطموح إلى درجة غير واقعية، كما أنه أيضاً يصعب قياسه حيث تتداخل عوامل كثيرة في تحديد مدى جدوى وأهمية وكفاءة التعليم الثانوي العام والفني والجامعي، إلا أن التقرير يعطي بعض المؤشرات ذات الدلالات الهامة. منها مثلاً أن نسبة الملتحقين بالتعليم الثانوي والتعليم العالي في أوروبا وأميركا الشمالية وصلت إلى 70% بينما نجد نسبتهم في جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا هي 34% للتعليم الثانوي و2% للتعليم الجامعي!! ومنها أيضاً ذلك التفاوت الشديد في الفرص داخل الدولة الواحدة بين الأغنياء والفقراء أو بين الذكور والإناث أو بين الريف والحضر، ما يشير أيضاً إلى استحالة تحقيق قدر معقول من ذلك الهدف في 2015.
الهدف الرابع: محو أمية الكبار
عدد الراشدين الذين لا يجيدون القراءة يبلغ 796 مليوناً أي 17% من سكان العالم، تشكل النساء الثلثين منهم. كما أن هناك 10 دول فقط فيها 72% ممّن لا يجيدون القراءة في العالم. ورغم حدوث تقدم في بعض الدول، مثل الصين والبرازيل، إلا أن هناك دولاً أخرى تقف على بعد مسافة كبيرة من التزامها الدولي، مثل الهند وبنجلاديش وأنجولا وتشاد والكونغو الديمقراطية التي بالكاد تصل لنصف ما تعهدت أو أقل.
وهنا يؤكد التقرير أنه لا توجد إرادة سياسية جادة في كثير من البلدان لتحقيق هذا الهدف، حيث لا يزيد الأمر عن عقد المؤتمرات وتبادل الأفكار، ثم لا يتحول هذا إلى خطط وخطوات عملية محددة.
الهدف الخامس: الإنصاف والمساواة بين الجنسين
لا يزال هناك تفاوت بين الذكور والإناث في فرص الحصول المتكافئ على التعليم. ولكن هذا التفاوت يزداد أو يقل من دولة لأخرى، بل ومن منطقة إلى أخرى في البلد نفسه، حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والاختلافات الإثنية. فنجد ـ على سبيل المثال ـ أن في بعض مناطق الصومال تلتحق 66 فتاة بالمدارس مقابل كل 100 فتى، بينما يقل العدد في الصومال في مناطق أخرى إلى 55 فتاة. ونجد أن نسبة الإناث إلى الذكور في مدارس باكستان ثلاثة إلى أربعة، بينما تصل في تشاد إلى النصف.
ويؤكد التقرير أن التزام الدول نحو المساواة بين الجنسين في التعليم كان من شأنه أن يرفع عدد الفتيات اللاتي التحقن بالمدارس بمقدار 3.6 ملايين فتاة في عام 2008، وهو ما لم يحدث.
الهدف السادس: تحسين نوعية التعليم
الدراسة الدولية لقياس التقدم في تعلّم القراءة (PIRLS)، والتي أجريت على 40 دولة في العالم، أوضحت أن الدول الأغنى، مثل فرنسا والولايات المتحدة، حصل الأطفال فيها على المستوى المتوسط أو الأعلى، بينما جاء مستوى الأطفال في المستوى الدراسي نفسه بالمغرب وجنوب أفريقيا، على سبيل المثال، أقل من المستوى الأدنى. مثال آخر من الهند عام 2009، حيث استطاع 38% فقط من الطلبة الريفيين في الصف الرابع قراءة نص مقرر للصف الثاني.
مشكلات وعوائق
وراء هذا التعثّر في تحقيق أهداف التعليم للجميع، عوائق كثيرة تأتي على رأسها: 1) النزاعات المسلحة 2) نقص التمويل، 3) عدم توافر الإرادة السياسية.
أولاً: النزاعات المسلحة
فالحقيقة التي يغفل عنها كثيرون هي أن العدد الأكبر من ضحايا النزاعات المسلحة هم أولئك البعيدون عن مكان القتال، أولئك الذين تسببت الحرب في موتهم بشكل غير مباشر، هؤلاء الأطفال الذين أصابهم المرض أو الموت بسبب الأزمات الناجمة عن النزاعات والحروب، حيث يبلغ عدد وفيات الأطفال بسبب المرض والجوع في البلاد المتعرضة للنزاع المسلح ضعف عددهم في البلاد التي تخلو من الحروب.
ولعلّ الظاهرة الأكثر قسوة هي أن النزاعات في العقد الأخير أصبحت أكثر تجرؤاً على المدنيين، وأصبحت المدارس بما فيها من أطفال ومعلمين مكاناً مستهدفاً مألوفاً ومتوقعاً، ما أدى من ناحية لزيادة وفيات الأطفال بسبب الهجوم على المدارس، وأدى من ناحية أخرى إلى إغلاق المدارس وإحجام الأطفال عن التعليم خوفاً من القصف. وهذه هي الهجمات الإسرائيلية على غزة في 2008 و2009 تؤدي لوفاة 350 طفلاً وإصابة 1815 آخرين وتلحق الدمار بـ280 مدرسة.
ويشير التقرير إلى أن عدد الأطفال غير الملتحقين بالدراسة الابتدائية في البلدان النامية بسبب الحروب والنزاعات المسلحة هو 28 مليون طفل، أي ما يعادل 42% من مجموع الأطفال غير الملتحقين بالدراسة في العالم. كما أن عدد الملتحقين بالتعليم الثانوي في الدول ذات النزاعات المسلحة هو ثلث الملتحقين بها في الدول التي لا تعاني الحروب.
كما أن متوسط القراءة عند الكبار في البلدان النامية هو 93%، تنخفض إلى 79% في البلاد ذات النزاعات المسلحة.
ولا ننسى أن هذه الإحصائيات يرفعها إلينا هذا التقرير الذي أطلق عام 2011، أي قبل النزاعات المسلحة التي نشأت في السنوات الأربع الأخيرة، وعلى رأسها الكارثة السورية التي ربما تحتاج تقريراً مفصلاً لرفع حجم الكارثة التعليمية فيها.
ثانياً: التمويل
العقبة الثانية في طريق التعليم للجميع هي التمويل بشقيه الدولي والمحلي. أما عن التمويل المحلي، فإنه ـ باستثناء عدد قليل من الدول النامية ـ لا توجد إرادة سياسية حقيقية لزيادة ميزانية التعليم، حيث تراوح بين 2.9 إلى 3.8 في معظم الدول النامية.
وعلى جانب التمويل الدولي، نجد أن الدول الغنية لم تلتزم بعهودها لمساعدة الدول الأفقر كما وعدت في داكار 2000، وهو التعهد الذي نص على: "ألا تدع أي بلد ملتزم بتحقيق أهداف التعليم للجميع أن يبوء بالفشل بسبب التمويل"!!
هكذا تنص الوثيقة، وهو ما يمكن أن يتحقق إذا زادت حصة التمويل بدرجة معقولة، وإذا خصصت المعونات نصف قيمتها الحالية للتعليم.
ولكننا نجد أن الدول الغنية تنفق حوالي 1000 مليار دولار على التسليح، بينما إذا استقطعت 6 أيام من ميزانية التسليح ستوفر 1.6 مليون دولار كافية لسد الفجوة في ميزانية التعليم في جزء كبير من العالم.
وبالإضافة إلى ذلك، يبدو أن المعونات الدولية لها أولويات أخرى، فهناك البعض من دول الثمانية، مثل ألمانيا وفرنسا، تستقطع جزءاً من معونتها في التعليم لدعم لطلبة الأجانب الذين يدرسون فيها، وتخصص 70% من معوناتها للتعليم العالي، وهو ليس الأولوية الأولى في الفجوة التعليمية في البلدان النامية. والأسوأ من ذلك أنه في العديد من الدول يتم تخصيص الجزء الأكبر من المعونة للتسليح وليس للتعليم. ففي أفغانستان جرى استقطاع ثلثي المعونة للتسليح. وأضيف هنا أنه يتم تخصيص أكثر من ثلاثة أرباع المعونة الأميركية في مصر للجيش، وقسم الربع الباقي على شتى مسارات التنمية، بما فيها التعليم، مع الأخذ في الاعتبار أن ميزانية الجيش هي قدس الأقداس التي لا يقتحمها أحد ولا يعلم أحد في ما تنفق.
ثالثاً: الإرادة السياسية.. ونماذج ناجحة
هناك تخاذل في الإرادة السياسية للاهتمام بالتعليم في كثير من البلدان، ولعل الدليل الكاشف لهذا التخاذل هو وجود نماذج أخرى ناجحة استطاعت أن تقترب من الهدف رغم أنها تواجه التحديات نفسها، والدليل أيضاً هو وجود بعض الأفكارالمطروحة بالفعل والتي يمكن أن تصنع فارقاً ولكنها لا تجد اهتماماً ولا جدية، ومنها:
برنامج Escholinhas
فتح البرنامج في موزمبيق أبواباً للتعليم للأطفال المهمشين والذي شارك فيه المجتمع المحلي بالتعاون مع المدارس والمعلمين، واستطاعت هذه التجربة الرائدة أن توفر فرصاً تعليمية لفئات كانت قد فقدت الأمل في الحصول ولو على القسط الضئيل منها.
برامج "الفرصة الثانية" في أميركا اللاتينية
هناك تم تطبيق حزمة من البرامج على الشباب المتسرب من التعليم لتقديم مزيج من التعليم الفني والمهارات الحياتية والتي وفّرت قدراً من التعليم الجيد وأتاحت الكثير من فرص العمل.
قانون التعليم والتدريب الذي صدر في المملكة المتحدة عام 2008
اعتبر بمقتضى هذا القانون التعليم والتدريب إلزامياً لكل مَن كان سنه تحت 18 سنة، ولكل شاب أن يختار التعليم والتدريب داخل الشركات بدوام كامل أو نصف دوام.
منظمة Pratham غير الحكومية في الهند
ركزت المنظمة على قضية تحسين مستوى القراءة والكتابة خلال عامي 2008، 2009، واستفاد منها 33 مليون طفل في 19 ولاية هندية على أيدي مدرسين تلقوا تدريباً مكثفاً على مبادئ التربية والتعليم لمدة أسبوعين ثم يتم متابعتهم أثناء البرنامج.
هذه النماذج والأفكار، على سبيل المثال وليس الحصر، تظل شاهداً على كل متخاذل عن الوفاء "بالتزامه الجماعي" الذي تعهّد به من أجل التعليم للجميع. وكما هو موضح، أن المشكلة الأكبر تكمن في الإرادة السياسية الغائبة لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية الخاصة بالتعليم، وأن توفير ولو قدر من ميزانيات تسليح الجيوش كاف لسد عجز بعض البنود الاساسية... والخطر كل الخطر في أن تستمر الأوضاع على ما هي عليه من تخاذل الدول بما يتيح فرصاً عظيمة لتربة صالحة لنمو جيل من الجَهَلة المنقادين والمنساقين وراء كل كذاب أشر.
1- توسيع وتحسين الرعاية والتربية على نحو شامل في مرحلة الطفولة المبكرة.
2- تمكين جميع الأطفال من الحصول على تعليم ابتدائي جيد مجاني وإلزامي.
3- أن يشمل التعليم الصغار والراشدين بشكل متكافئ.
4- تحسين 50 في المئة من مستويات محو الأمية للكبار.
5- إزالة أوجه التفاوت بين الجنسين في مجال التعليم الابتدائي والثانوي.
6- التحسين النوعي للتعليم وضمان الجودة والنتائج الملموسة للجميع.
2015.. وعد لم يتحقق
والجدير بالذكر أن الموقعين على الوثيقة، من قيادات حكومية وسياسية وأهلية ودولية، قد حددوا عام 2015 تاريخاً للوفاء بهذا الالتزام الجماعي. وها هو قد جاء عام 2015 ولم يتحقق الوعد، بل إننا نرى بأعيننا ما آل إليه الأمر بشأن التعليم للجميع، سواء على مستوى العالم أجمع، أم على مستوى العالم العربي، حيث نرى مظاهر الحرمان من التعليم للجميع واضحة جلية لا يخطئها البصر ولا البصيرة.
والملفت للانتباه أن هذه النتيجة التي وصلنا إليها الآن ليست مفاجئة، فقد جاء تقرير الأمم المتحدة لرصد ما وصل إليه "التعليم للجميع" في عام 2011 (أي قبل الآن بأربع سنوات)، ليلفت انتباهنا إلى أن المسار قد انحرف، وأن الأهداف تتباعد عن أنظارنا، وأن الحكومات والمجتمع الأهلي والدولي قد تخلوا كثيراً عن "الوفاء بالتزامتهم الاجتماعية" التي وقعوا عليها في داكار.
تقرير الأمم المتحدة لعام 2011 ـ الذي نتناوله في هذا المقال ـ حاول أن يكون جرس إنذار يلفت أنظار العالم لما وصل إليه "التعليم للجميع"، لعلّ الانحراف يتوقف، ولعل المسار يستقيم، ولكن على ما يبدو أن هذه الإنذارات لم تجد مستمعاً لها.
الهدف الأول: الرعاية والتربية في الطفولة المبكرة
من المعروف أن سوء التغذية له عواقب وخيمة على مستوى التعليم، حيث إنه يؤثر على قدرة الأطفال على التحصيل والاستيعاب، و يؤثر سلبياً على معظم قدراتهم المعرفية ونموهم الإدراكي. هذا بالاضافة إلى أن التدهور الصحي للأطفال يمنعهم من الالتحاق أو الالتزام بالدراسة، أو استكمالهم مسارهم التعليمي، أو على أفضل التقديرات فإنه يؤثر على مستوى كفاءتهم الدراسية واستفادتهم من الانخراط في التعليم.
وتعتبر نسبة وفيات الأطفال تحت سن الخامسة مؤشراً كاشفاً يعكس مدى الاهتمام بصحة الطفل في المرحلة الأولى من العمر، حيث نجد أنه رغم انخفاض حالات الوفاة بين الأطفال دون الخامسة من 12.5 مليوناً في 1990 إلى 8.8 ملايين في 2008، إلا أن هذا المعدل لا يزال بعيداً جداً عن الهدف المنشود في 2015، وذلك لأن هناك 19 دولة فقط من 68 دولة في العالم ذات المعدلات الأعلى لوفاة الأطفال فيها، هي التي نجحت في خفض وفيات الأطفال بالمعدل الذي يتماشى مع الأهداف الإنمائية للألفية وهي خفض وفيات الأطفال إلى الثلثين حتى عام 2015، أما باقي الدول فلم تحقق التقدم المطلوب.
تعليم الأمهات
على الجانب الآخر، هناك عامل في غاية الخطورة يؤثر على مرض أو وفاة الأطفال دون الخامسة، وهو تعليم الأم. ويعبّر تقرير الأمم المتحدة عن تلك الحقيقة بأسلوب مؤثر، حيث يقول: "هناك علاج مدهش يمكنه خفض نسبة انتقال فيروس ضعف المناعة البشرية من الأم للطفل، ويساعد في إنقاذ أرواح 370000 طفل سنوياً، هذا العلاج اسمه: تعليم الأمهات!!".
وبالتالي، فإن تعليم الأمهات هو أحد عناصر المعادلة التي تؤثر على صحة الطفل والتي تؤثر بدورها على الرعاية والتربية في الطفولة المبكرة التي هي أول أهداف داكار من أجل "التعليم للجميع".
الهدف الثاني: تعميم التعليم الإبتدائي
كانت هناك بعض البدايات الطيبة التي تنبئ بإمكانية الوصول لهذا الهدف، ولكن مع الوقت تباطأت الخطى ثم تراجعت للخلف. فعلى سبيل المثال، نجد أنه في عام 2000 كان عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس الابتدائية 106 ملايين طفل، انخفض إلى 67 مليون طفل في 2008، وهذا تطور إيجابي قد شهده النصف الأول من العقد السابق. ولكن العكس قد حدث في النصف الثاني من العقد نفسه، حيث إن انخفاض معدل الأطفال غير الملتحقين بالمدارس قد تراجع إلى النصف، وهذا معناه أنه إذا استمر المعدل على المنوال نفسه، فسيصل عدد الأطفال غير الملتحقين بالتعليم الابتدائي إلى 72 مليون طفل في 2015، أي أكثر من عددهم في 2008، وكأن القاطرة تعود للوراء!!
ومع النظرة الفاحصة لهذا التقهقر في الالتحاق بالتعليم الأساسي، نجد أنه حتى لم يحدث على نحو متساِو بين الطبقات المختلفة، فنجد مثلاً أن نصف الأطفال والمراهقين الذين لم يلتحقوا بالتعليم الابتدائي في باكستان عام 2007 هم من الطبقة الفقيرة فقراً مدقعاً، بينما لم يتأثر الأغنياء بالدرجة نفسها. ومن جانب آخر، لا تنتهي المشكلة عند الالتحاق بالمدرسة، حيث يواجه العالم المشكلة الأكبر وهي التسرّب من الدراسة لأولئك الذين التحقوا بالمدرسة بالفعل. ففي جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا يتسرب سنوياً حوالي 10 ملايين طفل. فإذا وضعنا التزايد في نسب الالتحاق بالمدارس، إلى جانب نسب التسرب، إلى جانب الفروق الطبقية القاسية في هذه المساحة، نجد أننا نبتعد كثيراً عن أهداف "التعليم للجميع".
الهدف الثالث: التعليم العالي
رغم أن هذا الهدف شديد الطموح إلى درجة غير واقعية، كما أنه أيضاً يصعب قياسه حيث تتداخل عوامل كثيرة في تحديد مدى جدوى وأهمية وكفاءة التعليم الثانوي العام والفني والجامعي، إلا أن التقرير يعطي بعض المؤشرات ذات الدلالات الهامة. منها مثلاً أن نسبة الملتحقين بالتعليم الثانوي والتعليم العالي في أوروبا وأميركا الشمالية وصلت إلى 70% بينما نجد نسبتهم في جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا هي 34% للتعليم الثانوي و2% للتعليم الجامعي!! ومنها أيضاً ذلك التفاوت الشديد في الفرص داخل الدولة الواحدة بين الأغنياء والفقراء أو بين الذكور والإناث أو بين الريف والحضر، ما يشير أيضاً إلى استحالة تحقيق قدر معقول من ذلك الهدف في 2015.
الهدف الرابع: محو أمية الكبار
عدد الراشدين الذين لا يجيدون القراءة يبلغ 796 مليوناً أي 17% من سكان العالم، تشكل النساء الثلثين منهم. كما أن هناك 10 دول فقط فيها 72% ممّن لا يجيدون القراءة في العالم. ورغم حدوث تقدم في بعض الدول، مثل الصين والبرازيل، إلا أن هناك دولاً أخرى تقف على بعد مسافة كبيرة من التزامها الدولي، مثل الهند وبنجلاديش وأنجولا وتشاد والكونغو الديمقراطية التي بالكاد تصل لنصف ما تعهدت أو أقل.
وهنا يؤكد التقرير أنه لا توجد إرادة سياسية جادة في كثير من البلدان لتحقيق هذا الهدف، حيث لا يزيد الأمر عن عقد المؤتمرات وتبادل الأفكار، ثم لا يتحول هذا إلى خطط وخطوات عملية محددة.
الهدف الخامس: الإنصاف والمساواة بين الجنسين
لا يزال هناك تفاوت بين الذكور والإناث في فرص الحصول المتكافئ على التعليم. ولكن هذا التفاوت يزداد أو يقل من دولة لأخرى، بل ومن منطقة إلى أخرى في البلد نفسه، حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والاختلافات الإثنية. فنجد ـ على سبيل المثال ـ أن في بعض مناطق الصومال تلتحق 66 فتاة بالمدارس مقابل كل 100 فتى، بينما يقل العدد في الصومال في مناطق أخرى إلى 55 فتاة. ونجد أن نسبة الإناث إلى الذكور في مدارس باكستان ثلاثة إلى أربعة، بينما تصل في تشاد إلى النصف.
ويؤكد التقرير أن التزام الدول نحو المساواة بين الجنسين في التعليم كان من شأنه أن يرفع عدد الفتيات اللاتي التحقن بالمدارس بمقدار 3.6 ملايين فتاة في عام 2008، وهو ما لم يحدث.
الهدف السادس: تحسين نوعية التعليم
الدراسة الدولية لقياس التقدم في تعلّم القراءة (PIRLS)، والتي أجريت على 40 دولة في العالم، أوضحت أن الدول الأغنى، مثل فرنسا والولايات المتحدة، حصل الأطفال فيها على المستوى المتوسط أو الأعلى، بينما جاء مستوى الأطفال في المستوى الدراسي نفسه بالمغرب وجنوب أفريقيا، على سبيل المثال، أقل من المستوى الأدنى. مثال آخر من الهند عام 2009، حيث استطاع 38% فقط من الطلبة الريفيين في الصف الرابع قراءة نص مقرر للصف الثاني.
مشكلات وعوائق
وراء هذا التعثّر في تحقيق أهداف التعليم للجميع، عوائق كثيرة تأتي على رأسها: 1) النزاعات المسلحة 2) نقص التمويل، 3) عدم توافر الإرادة السياسية.
أولاً: النزاعات المسلحة
فالحقيقة التي يغفل عنها كثيرون هي أن العدد الأكبر من ضحايا النزاعات المسلحة هم أولئك البعيدون عن مكان القتال، أولئك الذين تسببت الحرب في موتهم بشكل غير مباشر، هؤلاء الأطفال الذين أصابهم المرض أو الموت بسبب الأزمات الناجمة عن النزاعات والحروب، حيث يبلغ عدد وفيات الأطفال بسبب المرض والجوع في البلاد المتعرضة للنزاع المسلح ضعف عددهم في البلاد التي تخلو من الحروب.
ولعلّ الظاهرة الأكثر قسوة هي أن النزاعات في العقد الأخير أصبحت أكثر تجرؤاً على المدنيين، وأصبحت المدارس بما فيها من أطفال ومعلمين مكاناً مستهدفاً مألوفاً ومتوقعاً، ما أدى من ناحية لزيادة وفيات الأطفال بسبب الهجوم على المدارس، وأدى من ناحية أخرى إلى إغلاق المدارس وإحجام الأطفال عن التعليم خوفاً من القصف. وهذه هي الهجمات الإسرائيلية على غزة في 2008 و2009 تؤدي لوفاة 350 طفلاً وإصابة 1815 آخرين وتلحق الدمار بـ280 مدرسة.
ويشير التقرير إلى أن عدد الأطفال غير الملتحقين بالدراسة الابتدائية في البلدان النامية بسبب الحروب والنزاعات المسلحة هو 28 مليون طفل، أي ما يعادل 42% من مجموع الأطفال غير الملتحقين بالدراسة في العالم. كما أن عدد الملتحقين بالتعليم الثانوي في الدول ذات النزاعات المسلحة هو ثلث الملتحقين بها في الدول التي لا تعاني الحروب.
كما أن متوسط القراءة عند الكبار في البلدان النامية هو 93%، تنخفض إلى 79% في البلاد ذات النزاعات المسلحة.
ولا ننسى أن هذه الإحصائيات يرفعها إلينا هذا التقرير الذي أطلق عام 2011، أي قبل النزاعات المسلحة التي نشأت في السنوات الأربع الأخيرة، وعلى رأسها الكارثة السورية التي ربما تحتاج تقريراً مفصلاً لرفع حجم الكارثة التعليمية فيها.
ثانياً: التمويل
العقبة الثانية في طريق التعليم للجميع هي التمويل بشقيه الدولي والمحلي. أما عن التمويل المحلي، فإنه ـ باستثناء عدد قليل من الدول النامية ـ لا توجد إرادة سياسية حقيقية لزيادة ميزانية التعليم، حيث تراوح بين 2.9 إلى 3.8 في معظم الدول النامية.
وعلى جانب التمويل الدولي، نجد أن الدول الغنية لم تلتزم بعهودها لمساعدة الدول الأفقر كما وعدت في داكار 2000، وهو التعهد الذي نص على: "ألا تدع أي بلد ملتزم بتحقيق أهداف التعليم للجميع أن يبوء بالفشل بسبب التمويل"!!
هكذا تنص الوثيقة، وهو ما يمكن أن يتحقق إذا زادت حصة التمويل بدرجة معقولة، وإذا خصصت المعونات نصف قيمتها الحالية للتعليم.
ولكننا نجد أن الدول الغنية تنفق حوالي 1000 مليار دولار على التسليح، بينما إذا استقطعت 6 أيام من ميزانية التسليح ستوفر 1.6 مليون دولار كافية لسد الفجوة في ميزانية التعليم في جزء كبير من العالم.
وبالإضافة إلى ذلك، يبدو أن المعونات الدولية لها أولويات أخرى، فهناك البعض من دول الثمانية، مثل ألمانيا وفرنسا، تستقطع جزءاً من معونتها في التعليم لدعم لطلبة الأجانب الذين يدرسون فيها، وتخصص 70% من معوناتها للتعليم العالي، وهو ليس الأولوية الأولى في الفجوة التعليمية في البلدان النامية. والأسوأ من ذلك أنه في العديد من الدول يتم تخصيص الجزء الأكبر من المعونة للتسليح وليس للتعليم. ففي أفغانستان جرى استقطاع ثلثي المعونة للتسليح. وأضيف هنا أنه يتم تخصيص أكثر من ثلاثة أرباع المعونة الأميركية في مصر للجيش، وقسم الربع الباقي على شتى مسارات التنمية، بما فيها التعليم، مع الأخذ في الاعتبار أن ميزانية الجيش هي قدس الأقداس التي لا يقتحمها أحد ولا يعلم أحد في ما تنفق.
ثالثاً: الإرادة السياسية.. ونماذج ناجحة
هناك تخاذل في الإرادة السياسية للاهتمام بالتعليم في كثير من البلدان، ولعل الدليل الكاشف لهذا التخاذل هو وجود نماذج أخرى ناجحة استطاعت أن تقترب من الهدف رغم أنها تواجه التحديات نفسها، والدليل أيضاً هو وجود بعض الأفكارالمطروحة بالفعل والتي يمكن أن تصنع فارقاً ولكنها لا تجد اهتماماً ولا جدية، ومنها:
برنامج Escholinhas
فتح البرنامج في موزمبيق أبواباً للتعليم للأطفال المهمشين والذي شارك فيه المجتمع المحلي بالتعاون مع المدارس والمعلمين، واستطاعت هذه التجربة الرائدة أن توفر فرصاً تعليمية لفئات كانت قد فقدت الأمل في الحصول ولو على القسط الضئيل منها.
برامج "الفرصة الثانية" في أميركا اللاتينية
هناك تم تطبيق حزمة من البرامج على الشباب المتسرب من التعليم لتقديم مزيج من التعليم الفني والمهارات الحياتية والتي وفّرت قدراً من التعليم الجيد وأتاحت الكثير من فرص العمل.
قانون التعليم والتدريب الذي صدر في المملكة المتحدة عام 2008
اعتبر بمقتضى هذا القانون التعليم والتدريب إلزامياً لكل مَن كان سنه تحت 18 سنة، ولكل شاب أن يختار التعليم والتدريب داخل الشركات بدوام كامل أو نصف دوام.
منظمة Pratham غير الحكومية في الهند
ركزت المنظمة على قضية تحسين مستوى القراءة والكتابة خلال عامي 2008، 2009، واستفاد منها 33 مليون طفل في 19 ولاية هندية على أيدي مدرسين تلقوا تدريباً مكثفاً على مبادئ التربية والتعليم لمدة أسبوعين ثم يتم متابعتهم أثناء البرنامج.
هذه النماذج والأفكار، على سبيل المثال وليس الحصر، تظل شاهداً على كل متخاذل عن الوفاء "بالتزامه الجماعي" الذي تعهّد به من أجل التعليم للجميع. وكما هو موضح، أن المشكلة الأكبر تكمن في الإرادة السياسية الغائبة لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية الخاصة بالتعليم، وأن توفير ولو قدر من ميزانيات تسليح الجيوش كاف لسد عجز بعض البنود الاساسية... والخطر كل الخطر في أن تستمر الأوضاع على ما هي عليه من تخاذل الدول بما يتيح فرصاً عظيمة لتربة صالحة لنمو جيل من الجَهَلة المنقادين والمنساقين وراء كل كذاب أشر.