وثائقيات شرم الشيخ: لحظات إبداع

04 مارس 2019
عباس كياروستامي بعدسة سيف الله صمديان (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
للفيلم الوثائقي حيّز خاص، في الدورة الثالثة (2 ـ 8 مارس/آذار 2019) لـ"مهرجان شرم الشيخ للسينما الآسيوية". أهميته تزداد قدرةً على جذب مُشاهدين، وعلى إثارة اهتمام نقدي به وبعوالمه وأساليب مخرجيه، وعلى فرض حضوره على مهرجانات سينمائية مختلفة. مهرجان شرم الشيخ، المعني بسينمات تُصنع في دول آسيوية، لن يغفل هذا النوع المتمكّن من إلغاء الحدود بين المتخيّل والتوثيق، لاغيًا المفهوم التسجيلي، رغم أن عربًا كثيرين، في مصر تحديدًا، متمسّكون بتلك الصفة القديمة، وغير المتلائمة مع جماليات سينمائية يمتلكها الفيلم الوثائقي العربي والأجنبي حاليًا.

في المهرجان نفسه، هناك 6 أفلام وثائقية، حديثة الإنتاج (2017 ـ 2019)، تُشارك في المسابقة الرسمية، بينها فيلمان عربيان: "الفرقة" (67 دقيقة، 2018، إنتاج عراقي لبناني) للباقر جعفر، و"الشغلة" (79 دقيقة، 2019، إنتاج مصري) لرامز يوسف. المشترك بينهما كامنٌ في عالم الفنون، وتحديدًا الرقص الشعبي والموسيقى. لكن مشتركًا آخر يجمعهما، فهما غير مكتفيين بالظاهر المتمثّل في أحوال الموسيقى في مدينة الصدر بالعراق (الفرقة)، وبالرقص في الإسكندرية (الشغلة)، إذْ يتوغّل المخرجان جعفر ويوسف في تحوّلات المدينتين، وفي مسارات عيش ناسهما، وفي متاهات الانقلابات، الاجتماعية والثقافية والتربوية والمسلكية ـ وهي كلّها منبثقة من فكر متشدّد يتّخذ من الدين أحيانًا ركيزة سلطوية ـ التي تُدركها مدينتا الصدر والإسكندرية.

وإذْ ينشغل الباقر جعفر في سرد حكاية "حلم"، وهي فرقة موسيقية مؤلّفة من 6 أفراد يسعون إلى إقامة حفلة عزف لموسيقى صوفية في مدينة الصدر؛ فإن رامز يوسف يغوص، مع 3 راقصات شعبيات، في أعماق اليوميّ والانفعالي والاجتماعي، التي تُقيم فيها الراقصات، وهنّ في صراع دائم من أجل عيشٍ، ولو ضمن حدّ أدنى منه، في ظروف تزداد صعوبة يومًا تلو آخر. وفي مقابل تحدّيات قاسية تواجهها الراقصات الـ3 في تلك المدينة، الفاقدة تاريخها الكوزموبوليتيّ منذ سنين بعيدة، تبرز تحدّيات مُشابهة بقسوتها، وإنْ تمتلك خطورة أكبر على أعضاء الفرقة، فالمدينة العراقية تلك تُحظر كلّ أنواع الموسيقى، ما يعني أن احتمال القتل واردٌ.

الموسيقى أيضًا، المتّخذة من الـ"ميتال" نمط تعبير، تحضر في "روك كابول" (77 دقيقة، 2018، إنتاج أفغاني أسترالي) للموسيقي الأسترالي ترافيس بيرد. وإذْ تتشابه المدينتان العراقية والمصرية في انغلاق يُحظر ناسهما على ممارسة أمور شتّى لمعارضتها ثقافة مسيطرة عليهما؛ فإن كابول الأفغانية في زمن ما بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001 لن تختلف عنهما كثيرًا، ما يجعل فرقة "منطقة مجهولة" لموسيقى "ميتال" في موضع حرج، رغم تمكّنها من التواصل مع شبابٍ أفغان، وإنْ يكن عددهم قليلاً، فالأهمّ أن لديهم شغفًا كبيرًا بالموسيقى، كنوعٍ من تحرّر يطمحون إليه في بيئة متزمّتة.

أما الأذربيجاني هلال بيدروف، فيختلي داخل جدران الروح والمنزل، مع أرملةٍ ليلة عيد ميلادها، في "عيد ميلاد" (63 دقيقة، 2018، أذربيجان). أرملة يتخلّى عنها أولادها، فتواجه ذاتها بانتظار مكالمة هاتفية تستأنس بها، وربما تُخرجها ولو قليلاً من قسوة الحصار وبؤس الوحدة. مكالمة هاتفية لن يُجريها أحدٌ، تمامًا كعدم قيام أحدٍ بزيارتها رغم انشغالها بإعداد طعام شهيّ. كأنّ "عيد ميلاد" نشيدٌ للوحدة في جوانبها المخيفة والقاسية، فتلجأ الأرملة إلى الصلاة، لكن هنا أيضًا لن يسمع صلاتها أحدٌ، ولن يُشاركها الصلاة أحدٌ.

أما "السيد بيغ" (106 دقائق، 2018، الصين) لتونغ تشينغ ـ جيا، فلن يكون أقلّ وحدة من الأرملة الأذربيجانية، رغم تحلّق أصدقاء حوله. عاملٌ في مصنع للنحاس في قلب منغوليا، يُقرِّر السيّد بيغ السفر إلى التيبت. لكنه يعاني خللاً في صحّته الجسدية، ما يدفع أصدقاءه إلى رفض الفكرة، ومحاولة إقناعه بعدم تحقيقها. إصراره كبير، والرحلة قائمة، والوحدة رفيقةٌ له. كأن الإصرار رغبة في التماهي مع الذات بعيدًا عن العالم اليومي الذي يُقيم فيه، أو محاولة اغتسال روحي ونفسي يطمح إليه.

آخر تلك الأفلام، إيرانيّ لسيف الله صمديان، بعنوان "76 دقيقة و15 ثانية مع عباس كياروستامي" (76 دقيقة، 2016). مساعدٌ له في أعوام مديدة، يُعتبر صمديان الشخص الوحيد المسموح له بتصوير السينمائيّ والمُصوّر الفوتوغرافي الإيراني كياروستامي أثناء انهماكه في العمل. وهذا يُتيح لصمديان الحصول على صُور ومشاهد مُصوّرة، كما على التصوير المباشر، لأعمال متنوّعة لكياروستامي: أفلامٌ وتجهيزات فنية وصُور فوتوغرافية، منجزًا ما يُوصف بـ"شهادة ما بعد الموت"، وهي شهادة سينمائية حميمة لكياروستامي في لحظات ابتكاره الفني المتنوّع.


المساهمون