وثائقيات العائلة: تناقض الفعل الإبداعي

15 نوفمبر 2018
من "أرى أناسًا بالأحمر" لبويينا بانايوتوفا (فيسبوك)
+ الخط -
في العام الماضي، عُرض الفيلم الوثائقي الفرنسي Plot 35 للمخرج الفرنسي إريك كارافاكا (1966) في برنامج "جلسات خاصة"، في الدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائي. وكان محرّكه الأساسي تساؤل المخرج عما حدث لشقيقته المتوفاة قبل ولادته، وهي في الثالثة من عمرها. الغريب أنها اختفت من صُوَر العائلة وأشرطة الفيديو الخاصّة بها كأنها لم تكن، بينما يبدأ هو رحلة بحثه من التناقض الحاصل بين روايتي الأم والأب، قبل ذهابه إلى أبعد من ذلك، أي إلى ما وراء "السرّ".

في فيلم آخر معروض في قسم "بانوراما ـ الأفلام الوثائقية"، في الدورة الـ68 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2018) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، وهو "أرى أناسًا بالأحمر" (I See Red People)، تعود المخرجة البلغارية الفرنسية بويينا بانايوتوفا (1978) إلى بلدها بعد 25 عامًا من العيش في فرنسا، بحثًا عن والديها الشيوعيين، وسعيًا إلى الحصول على إجابة حول ما إذا كانا متعاوِنَين مع جهاز الشرطة ضد رفاقهما أم لا. لتحقيق هذا، تبحث بانايوتوفا ـ الذي يُعرض فيلمها هذا في النسخة الـ11 (7 ـ 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"بانوراما الفيلم الأوروبي" في القاهرة ـ في ملفات سرية، وتخوض مواجهات أسرية معقّدة وغير مريحة تمامًا مع والديها نفسيهما.

الفيلمان متقاربان للغاية أحدهما من الآخر، وذلك في مستويات عديدة: كلاهما وثائقي شخصي، يبحث المخرج/ المخرجة فيهما عن "سرّ" دفين وقديم يخصّ تاريخ العائلة. كما أن المخرِجَين يستخدمان الأرشيف بكثافة، الشخصي (أشرطة 16 مم.) والعام.

غير أن الفرق الأكبر بينهما كامنٌ في أن Plot 35 عملٌ جيدٌ ومؤثّر فعليًا، بينما "أرى أناسًا بالأحمر" متواضع للغاية، يترك شعورًا مزعجًا لدى مُشاهده. أسباب الفرق عديدة، بعضها سينمائي وبعضها أخلاقي وثيق الصلة بفكرة "العمل الوثائقي" أساسًا.

لدى Plot 35 طاقة عاطفية أكبر، لأن "عدم وجود صُوَر للأخت" سؤالٌ إنساني يرتبط به المُشاهد ويشعر بمصداقيته عند كارافاكا، فيتورّط منذ الدقائق الأولى بالأمر وبالبحث عن الحقيقة. الأهمّ حاضرٌ في حقّ المخرج في التساؤل عن مصير أخته التي ظلت صغيرة بعد أن غيّبها الموت وأخفتها العائلة. من ناحية أخرى، لا يُثير سؤال بانايوتوفا عن والديها مصداقية، فلم يتورّط المُشاهد في علاقتها بهما، ولم يُطرح السؤال والبحث بشكل تلقائي في الأحداث، ولا يُعرف ما الذي سيتغيّر إذا كان تاريخهما محمّلاً بثقل التعاون مع جهاز الشرطة. الأسوأ أن المخرجة نفسها لا تملك إجابة واضحة على سؤال مطروح عليها مباشرة في الفيلم، عن سبب بحثها في هذا الموضوع وتصويره، فتجيب بشكل عام للغاية، وتقول: "أبحث عن الحقيقة".

تبدو المخرجة كأنها تريد صنع فيلم فقط، وهذا ظاهر بشكل أوضح في شعور الوالدين بالانزعاج الدائم من مراقبتها لهما وتصويرها إياهما، ما يؤدّي إلى عدم وجود لحظة واحدة خلال 90 دقيقة لا تشعر فيها الشخصيات بوجود الكاميرا، أو تتصرّف بشكلٍ تلقائي، بل أنّ الأم تقول بشكل واضح ذات لحظة إنّها لا تريد أنْ تتصوّر، ومع ذلك تتجاهل المخرجة انزعاج "العائلة" والتعدّي على خصوصيتها كي تُنجز الفيلم، وهذا منضوٍ في المسألة الأخلاقية.
هناك فرق آخر أيضًا بين العائلة البلغارية وشخصيات/ عائلة Plot 35، الذين يبني إريك كارافاكا معهم علاقة أصدق، إذ يبدو أن للوالدين استعدادًا للكلام والتعامل مع الكاميرا.

هذا يطرح مسألة ثالثة، سينمائية هذه المرة: رحلة البحث في Plot 35 ممتلئة ـ دراميًا وبصريًا ـ باكتشافات وتغيّرات وتنقّلات في بلدان مختلفة، بينما تختنق بويينا بانايوتوفا بفراغ حكايتها الدائرة بين غرف مغلقة وملفات وأحاديث عبر الـ"سكايب" مع والديها، بالإضافة إلى لحظاتٍ تصوّر المخرجة نفسها فيها، وتلتقط ردود أفعالها مع وعي مزعج بالكاميرا، كأنها ـ في خياراتها ودوافعها كلّها ـ تعطي درسًا عمّا يجب ألا يفعله المرء في فيلمٍ وثائقي، خصوصًا إنْ يخصّ العائلة.
المساهمون