وباء الإنفاق الانتقامي: صرف ملايين الدولارات في يوم واحد

09 يونيو 2020
لا يُغامر الأغنياء في الأزمات (Getty)
+ الخط -
كانت الصين أول بلد انتشر فيه وباء كورونا، والمفارقة أنها كانت البلد الأول الذي افتتح أسواقه أمام مواطنيه والعالم. المثير للاهتمام، أن صناعة المنتجات الثمينة، أكبر المتضررين انتعشت بعد هذا، إذ باع متجر "هرمس" للثياب الفاخرة بيوم واحد ما تعادل قيمته 2.7 مليون دولار، السبب الذي أشار إليه المحللون، هو "الإنفاق الانتقامي" Revenge spending، أي الشراء والاستهلاك، أو القيام بشيء ما بصورة غير منطقية تعويضاً عن نقص سابق.

لا يقتصر هذا "الانتقام" على المنتجات الثمينة، إذ يمارسه الأفراد عادة بعد حمية غذائيّة، أو علاقة فاشلة، في محاولة للانغماس في "المحرم" أو "النقيض" إن صح التعبير. لكن في ما يخص التسوق، فهذه الظاهرة ليست فريدة في الصين، إذ سبق أن شهدتها البلاد في الثمانينيات بعد انفتاح الصين على السوق العالميّة، وأصبح مع الناس نقود أكثر لصرفها، والأهم توافرت مُنتجات وسلع لتصرف فيها هذه النقود، وافتتحت فنادق ومنتجعات ليختبر فيها الفرد حياة البذخ.
يقول بعض المحللين إن هذه الظاهرة أنعشت اقتصاد العلامات الكبرى والفاخرة، لكن هذه الحالة لن تستمر، خصوصاً في ظل تناقص "المال" في أيدي الكثيرين. لكن، لماذا هذا السعي للإنفاق، خصوصاً أمام مستقبل غامض لا نعرف إلى أين يتجه في الاقتصاد، بل ولا نعلم إلى أين يتجه العالم نفسه؟
المثير للاهتمام أن الاستهلاك هو التعويض المثالي عن النقص. شراء العلامات وتكديس المقتنيات الثمينة أشبه بجمع الأعمال الفنيّة، لكن، هذه "الأغراض" يتم استخدامها، رغم أنها معرضة للتلف والضياع، أي أنها تنتمي لليومي، والأهم لا يمكن استخدامها بأكملها في ظل الحجر الصحي، وإغلاق أماكن الاستعراض التقليدية، ليبدو الأمر بالنسبة لنا أشبه بالسعي نحو الإشباع الآني، ذاك الذي تخلقه السلعة وهالة العلامة المحيطة بها، بل يكشف عمق الاستهلاك وتأثيره على حيواتنا، فاقتناء هذه المنتجات واستهلاكها تحول الآن إلى أسلوب لاستعراض الذات أمام المنزل وأمام الشاشة، اقتناء الثمين لاستعراضه أمام جمهور لا نعرفه، ولا يمكن تحديد خصائصه. الفحش والغلاء لا يعني فقط التمايز الطبقي، بل أيضاً العلاقة مع العمل، الجهد المبذول لكسب المال يتحول نهاية إلى نشوة آنية غير تراكميّة، كون الموضة تتغير بتسارع لا يمكن ضبطه أو حتى ملاحقته.

لا يمكن مقاومة غواية الاستهلاك، سواء كنا نشتري ثياباً أو كتباً أو لوحات. وهنا يمكن النظر إلى مفهوم الانتقام، هناك ذنب دفين وراء عملية الانتقام هذه، عدم رضا عن السلوك السابق والرغبة في نفيه كلياً، وكأن الشكل السابق يحوي عطباً ما، أو يملك معايير نعلم أنه مع الصعب تحقيقها، لكن لا بد من المحاولة. لا نتحدث هنا عن الحجر المنزليّ وأثره على السلوك الاستهلاكي، بل أي سلوك حرمنا منه، ثم قررنا "الانتقام" لاحقاً بممارسته للأقصى، حد الشبع، أو القرف، كحالة زوربا اليوناني الذي أكل كميات كبيرة من الفريز. الاختلاف أن السلع متنوعة ومختلفة ولا يمكن ضبط مفهوم "الجديد"، والذي قد لا يكون مهمّاً، فالاستهلاك مرتبط بالأكثر، وامتلاك كميات أكبر من أي شيء نشعر بأننا محرومون منه، أو نمتلك الوهم بأننا بحاجة "الكثير" منه.
المثير للاهتمام أن "المنتقمين" ليسوا من الأغنياء، بل من الطبقة الوسطى، فالأغنياء يكدسون الأموال ويستغلون الشكل الجديد للسوق من أجل كسب المزيد والهيمنة على شكل الاستهلاك الجديد، إذ لا مغامرات استهلاكية في الأزمات، بل تخطيط دقيق وواضح.
وهنا يظهر أثر الطبقة الوسطى، تلك التي تحاول الانتماء إلى "الأعلى"؛ إذ يتحول الاستهلاك وحكايات المنتجات إلى شكل من أشكال الهوية العلنيّة تلك التي تكون فيها الذات نفسها وتقارنها مع الآخرين، لتختلف عنهم أو تنضم إليهم.
المساهمون