وباء

22 مارس 2020
هذه لن تكون الحال اليوم (Getty)
+ الخط -

في تلك الضيعة الجبلية، قلّة كان هؤلاء الذين شاركوا أقاربهم مصابهم الأليم. الظروف القاهرة تحول دون تشكّل تجمّعات. كثر من تلك القلّة أرادوا معانقة المحزونين ومواساتهم في خسارتهم والتخفيف عنهم، غير أنّ "المشالحة" كانت ملزمة. والمشالحة، بحسب تعبير أهالي القرى اللبنانيّة الواقعة إلى شمال شرق بيروت، تعني السلام عن بعد من دون مصافحة، إلا أنّ الذين حضروا لتأدية واجب العزاء حاولوا احتضان أهل الفقيد بأعينهم، فيما مشى جمع ليس بغفير وراء النعش البنيّ إلى المثوى الأخير... فازداد المشهد أسى.

في زمن مضى، أيّام الحرب، حينما كانت القذائف تنهمر على تلك الضيعة، لم يكن أحد ليتردّد في وداع راحل من أبنائها. التقاليد والعادات تقتضي تكريم الميت حتى يوارى في الثرى، رغم المخاطر... المنظورة. القذائف والرصاص يُصنَّفان في تلك الفئة ويدركهما الجميع. أمّا في زمننا هذا، فالفيروس الذي يستبيح كوكبنا بأكمله مستتر. أمر مسلَّم به. والإنسان يخاف ممّا لا يراه... ممّا يجهله. وهذه حال البشريّة جمعاء اليوم. أمر يؤكّده هؤلاء الذي يحاولون الغوص في النفس البشريّة وكذلك الذين يحاولون سبر أحوال المجتمع وأهله.

الوباء العالميّ المستجدّ يرهبنا. يكفي أنّ التسمية هي "وباء". هذه المفردة قد تثير القشعريرة لدى كثيرين، على الرغم من أنّها لا تعني خطورة مرض ما إنّما ترتبط بتوسّع رقعته الجغرافيّة. هذا ما تؤكّده منظّمة الصحّة العالميّة، غير أنّ كثيرين منّا يرتعدون لمجرّد سماعهم هذه المفردة. "وباء"، هذه المفردة "المرعبة" قد تستجلب شبح الطاعون، ذلك "الموت الأسود" الذي حصد خصوصاً أرواح نحو ثلث سكّان القارة الأوروبيّة في القرن الرابع عشر وأخرى في أزمنة ومناطق مختلفة من المعمورة. المشهد الذي نقله الفنّان الإيطاليّ لويجي ساباتيلّي تحت عنوان "لا بيستيه دي فيرنزيه" (طاعون فلورنسا) مصوّراً جثثاً مكدّسة بعضها فوق بعض وقد نهشها ذلك الوباء في ذلك الزمن، هو ما قد نتخيّله اليوم. أمر قد يبدو مبرّراً في زمن فيروسٍ يبقى غامضاً، وإن أُطلق عليه اسم وحُدّدت خريطته الجينيّة.



إذاً الخوف مبرّر لا بل هو أمر مشروع. بالنسبة إلى مجلّة "بسيكولوجي" الفرنسية المتخصّصة في علم النفس، لا شكّ في أنّ أصعب ما يمكن التصريح به هو أنّنا لا نعلم اليوم بُعد هذا الوباء العالميّ، لا سيّما أنّ الواقع يشير إلى فيروس يتفشّى في كلّ مكان. وهنا يكمن خوفنا، في هذا الوضع غير المتوقّع وغير الاعتياديّ الذي تسبّب فيه فيروس غير منظور. ونجد أنفسنا في حالة صدمة. ليس فقط نتيجة الخطر الذي يهدّد صحّتنا، إنّما لأنّ هذا الفيروس ظهر فجأة ليجعلنا نشكّك في ما كنّا نؤمن به: قدرتنا على السيطرة على تفاصيل حياتنا.
المساهمون