.. وأيامنا نحن النساء كلها كربلاء
في منتهى التشاؤم الشعري، أوجز نزار قباني نشرة أخبار التاريخ العربي الغارق في الدم، ببيت يقول "وتاريخنا كله محنة/ وأيامنا كلها كربلاء". ومضى بعدها غازياً حديقة الجسد الأنثوي، بكل تفاؤل وثقة، ليبني على مدى غزواته المظفرة تاريخه الكبير، كرجل عربي لم تبق زاوية بجسم جميلة، إلا ومرت فوقها عرباته، حيث فصل من جلد النساء عباءة، وبنى أهراماً من الحلمات، وفقاً لتعبيره الموغل في ذكوريته الشعرية والإنسانية أيضاً.
والعلاقة واضحة ومنطقية جداً، كما يبدو لي، بين تشاؤمه كمواطن عربي، وهو يحاول أن يوجز تاريخ الأمة المثخن بالجراح، وتفاؤله كرجل عربي، وهو يحاول أن يوجز تاريخه الشخصي المثخن بالتجريح! ففي حين يبدو الضحية، وهو يستعرض تاريخ الأمة، يكون هو الجلاد عندما يستعرض تاريخه الشخصي. وفي الحالتين، تبقى المرأة ضحية بشكل مضاعف مرة باعتبارها مواطناً عربياً، ومرة باعتبارها امرأة عربية. ذلك أن العلاقة التي تتكرر بعيداً عن الصور الشعرية في ممارسات يومية عديدة، يعاني منها الرجل العربي، وتعاني منها المرأة العربية بشكل مضاعف كالعادة، ذلك أن الرجال كما يبدو، في إطار "نضالاتهم" ضد من يتسبب في معاناتهم، يخطئون الهدف أو الطريق إليه، عمداً أو قهراً وقلة حيلة، فيوجهون سهام الدفاع عن أنفسهم ضد النساء اللائي يشاركنهم في المعاناة نفسها، حيث يجدن أنفسهن، في تلك الحالة، في حالة دفاع عن النفس مرات عديدة، مرة ضد ظلم العالم كله لهن، باعتبارهن في فئة البشر بشكل عام، أي بغض النظر عن كونهن نساء، ومرة مع الرجل ضد المجتمع بكل أشكاله الوطنية والمدنية وأغلاله وقيوده الظالمة، والمرة الأقسى ضد الرجل نفسه في صورته الذكورية الصرف.
وعلى الرغم من خصوصية نزار قباني شاعراً يجوز له ما لا يجوز لغيره، وفقاً لنرجسية النظرية الشعرية عموماً، إلا أن المنطق المتناقض الذي يتحدث به هو منطق معظم الرجال العرب في نظرتهم للأمة، وفي نظرتهم للمرأة، وكأنه يجوز لهم جميعاً، بغض النظر عن شعريتهم، رمزياً، من عدمها.
ففي الوقت الذي تلتمع فيهم صورهم كمناضلين في سبيل أوطانهم وحرياتهم ومجتمعاتهم ومبادئهم، ومنها مبادئهم المتكئة على إيمان بحقوق المرأة، نجدهم يناضلون، بطريقة أخرى أحياناً، في سبيل تفصيل عباءاتهم من جلود النساء، وبناء أهراماتهم من حلماتهن، والمشكلة أنهم لا يرون تناقضاً في ذلك.
وقد حفلت مواقع التواصل الاجتماعي في اليوم العالمي للمرأة الذي احتفلت به نساء العالم في الثامن من مارس/آذار الجاري، ككل عام، بأمثلة كثيرة فاقعة كتابياً على ما ذكرته، حيث رصدت بطريقة عشوائية تغريدات كثيرة كتبها رجال، تأييداً للمرأة في الدفاع عن قضاياها، وترويجها بشكل مؤثر وحماسي، لكنهم، من جانب آخر، لا يتورعون عن الكتابة ضد المرأة نفسها بطريقة غير مباشرة، على سبيل النكتة والتظرف، وبما يرسخ النظرة السلبية لها، ويساعد على تحقيق أحلام الرجال في بناء مزيد من الأهرام، وتفصيل مزيد من العباءات بمادة جسد المرأة.
وربما كانت النساء العربيات الأحق ببيت نزار قباني، فتاريخهن، وحدهن، بمعزل عن الرجال، وبسببهم أحياناً كله محنة وأيامهن، مع الرجال، وبعيداً عنهم أيضاً كلها كربلاء. وبالتالي، عليهن جميعاً، كما أرى، أن يبدأن النضالات بشكل شخصي، أولاً، للتحرر من الداخل، وبعيداً عن هيمنة الرجل المغوية، ومظلته التي يرفعها فوق رؤوسهن بما يشبه الحماية، وما هي بحماية، قبل الانطلاق للتحرر العام، لعل الرجال، من يقف معهن ومن يقف ضدهن، ومن يواري ويخاتل، جهلاً أحياناً وعمداً أحياناً أخرى، أن يتأكد أن النساء لا يردن أن يفصلن من جلود الرجال عباءات، فلديهن ما يكفي من العباءات، بكل أشكالها وألوانها وتواريخها ورموزها. هن فقط يردن أن يخلون عن أحلامهم المريضة في ارتداء مثل هذا النوع من العباءات التي صورها نزار في أحد أبشع أبياته الشعرية.