يظلّ الوضع في سيناء ملغمًا وملغّزًا، بسبب عوامل عديدة تدخل ضمنها ندرة المعلومات التي تقتصر على البيانات العسكرية التي تقوم بإعدادها الشؤون المعنوية في المخابرات العسكرية، ويتولّى أفرادها المعنيون توزيعها على وسائل الإعلام المختلفة التي تضمن ولاءها، فضلاً عن منع الصحافيين وفرض عراقيل عديدة عليهم، للوصول إلى شمال سيناء وعمل تغطيات صحافية جادّة ومهنية، خارج دوائر نفوذهم ووصايتهم، وهو ما يحدث بشكل استثنائي أحيانًا وبمبادرات فردية من بعض الصحافيين، يحمل طابع المغامرة، وقد يسفر عن اعتقال فوري، مثلما تعرض له الصحافي المصري، إسماعيل الاسكندراني، والذي كشف في عدّة مقالات تحليلية وتحقيقات استقصائية جزءًا مما يحدث في سيناء وتخفيه الآلة الإعلامية الدعائية للدولة وبشاعة الصورة على المستوى الإنساني.
يُشير المحامي والناشط السياسي، هيثم محمدين، في الحوار الذي أجراه مع موقع "جيل" إلى حقائق استراتيجية عدة تفرضها اتفاقية كامب ديفيد التي وقّعها الرئيس السادات مع الكيان الصهيوني، وفرضت تبعية مباشرة للولايات المتّحدة وتقليص الدور المصري في محيطه الإقليمي والمحلّي؛ وهو ما يظهر أحد أعراضه في سيناء، والتي يعاني أهلها من فقدان الصلة بالدولة التي تحوّلت إلى شيء هلامي بلا تأثير، بينما تتراجع عن دورها الخدمي والتنموي، أدّى إلى صعود التطرّف والطائفية والصراع الهوياتي، في ظلّ تناقضات سياسية وطبقية تؤدّي للعزلة والتهميش.
موقع "جيل": في رأيك، إلى أي حدّ أثرت عزلة وتهميش المجتمع السيناوي من جانب الدولة في تمدّد التيّارات التكفيرية والجماعات المسلحة؟
الناشط السياسي هيثم محمدين: لا يمكن الحديث عن نمو وتمدّد التيارات المتطرفة الإرهابية في سيناء، بمعزل عن موضوع اتفاقية كامب ديفيد، لأن الأزمة الجوهرية تشكّل تبعات هذه الاتفاقية التي هي أساس كل الأزمات التي تعاني منها سيناء وأهلها.
بداية؛ بموجب هذه الاتفاقية لعب النظام المصري دور الحارس لأمن "إسرائيل"، وقد اتخذ موقفًا عدائيًا من المقاومة الفلسطينية؛ فقد حاصر قطاع غزة وقدّم خدمات أمنية واقتصادية كبيرة للكيان الإسرائيلي.
في فترات اشتعال الانتفاضة أو شن إسرائيل لحرب على الشعب الفلسطيني، يظهر النظام المصري كحليف للعدو. وهو ما أدّى إلى أن بعض الشباب، خصوصًا من الإسلاميين، يرى في النظام وأجهزته عدواً تجب محاربته. ولو عدنا إلى أصل نشأة جماعة أنصار بيت المقدس التي بايعت "داعش"، سوف نجد أنها امتداد لجماعة "التوحيد والجهاد" التي كانت بدورها امتدادًا لما سمّي بـ "جيش الإسلام الفلسطيني" في غزّة وسيناء.
كان دور هذه الجماعات في البداية تنفيذ عمليات ضد إسرائيل وخط الغاز والسيّاح الإسرائيليين، وسرعان ما وضعت على أجندتها استهداف أجهزة الأمن المصرية باعتبارها "أجهزة مرتدّة" تساند العدو كما تقتل "المسلمين" المصريين.
غياب أي مشروع داعم للمقاومة الفلسطينية في مصر، جعل بعض من يؤمن بالعداء لإسرائيل يرى في الجيش والشرطة المصرية امتدادًا لدولة الصهاينة التي تحارب الإسلام حسب تصوّرهم.
ما طبيعة الدور الخدمي وحقيقته التي تقوم به أجهزة الدولة التنفيذية في سيناء؟
في ما يتصل بالحديث عن موضوع تنمية سيناء، فإن هذا الكلام يتردّد من قبل النظام منذ أربعين عامًا، إلا أن حقيقة الأمر أن الملاحق الأمنية والاقتصادية لاتفاقية كامب ديفيد تُلزم النظام بترك سيناء خالية صحراء، وبالتالي العدو الإسرائيلي لا يريد أن يكون إلى جواره خمسة أو ستة ملايين مصري. وهناك حالة رعب من أن تكون سيناء ظهيراً شعبياً للمقاومة الفلسطينية، وكذلك الرعب من اختلال التوازن الديموغرافي بين عدد سكان الكيان الإسرائيلي ومحيطه من العرب.
لذلك فإن أي حديث عن موضوع تعمير سيناء هو مجرّد خداع طالما بقيت اتفاقية كامب ديفيد قائمة ببنودها وأهدافها الاستراتيجية، فأي تنمية وتعمير يُمكن الحديث عنهما في الوقت الذي يجري فيه تهجير أهالي سيناء وإزالة مدن تاريخية مصرية من على وجه الأرض.
كيف ترصد تداعيات عدم وجود مشروع تنموي في الداخل السيناوي، على مدى ثلاثة عقود، ومنذ السبعينيات، بسبب ما فرضته تحديدًا معاهدة كامب ديفيد، من واقع جديد ومؤثّر استراتيجيًا على الأمن القومي، السياسي والعسكري والمجتمعي، وتشكيل حواضن مجتمعية تحمي المتطرّفين وتشكيلاتهم المسلّحة؟
أجهزة الدولة تتعامل مع أهالي سيناء مثل "مشتبه بهم" أمنيًا حتى يثبت العكس، وتعمد إلى ممارسات أمنية تضييقية، فضلاً عن اتهام دائم لأهالي سيناء بالخيانة تارة وإيواء الإرهابيين تارة أخرى. فبعد أكثر من 50 سنة على "تحرير" سيناء يعاني أهالي سيناء من انعدام الخدمات في مناطق وسوء الخدمات في مناطق أخرى. فلا يوجد تعمير أو خلق وظائف عمل؛ بل ملاحقات واعتقالات فقط.
هل ثمّة تجاهل فعلًا للشباب السيناوي في المعركة ضدّ الجماعات المسلحة وما أسبابه؟
الدولة تتعامل مع أهالي سيناء كـ جالية أجنبية، يمثل كل قبيلة من قبائل سيناء "شيخ" يتفاهم مع الدولة وتمنحه بعض المزايا في مقابل ضمان سيطرة الدولة على أفراد القبيلة. الدولة لا تتعامل معهم كمواطنين مصريين لهم حقوق في هذا البلد.
كل هذه العوامل أرض خصبة لوجود ونمو أي تنظيم إرهابي، صحراء جرداء، عدد القوات المسلحة التي توجد فيها محدود بأعداد معينة ومناطق محدّدة، بموجب الاتفاقية، وثمة شعور عام بالقهر والقمع وملاحقات أمنية، تنتهك كرامتهم يوميًا وهو ما يخلق طابورًا من المستعدين لحمل السلاح لأخذ الثائر من أجهزة الدولة.
وبالتالي فإن العمليات العسكرية التي تقوم بها الدولة لم تنجح في القضاء على الإرهاب، وقد تستطيع تضييق عملياته، لكنها بكل هذه الانتهاكات إنما تخلق العداء بين الأهالي وتلك الأجهزة وهو ما يجعل فرص نمو جماعات متطرّفة موجودة باستمرار.