هواجس في غابة طوبسفيلد

05 يوليو 2015
مقر الجمعية الإسلامية في بوسطن(Getty)
+ الخط -
بوسطن باردة في المساء. عدت من غابة طوبسفيلد وقد حلقت بي هواجسي القديمة في البعيد. رأيت الشجر عاريا من تلك الألوان التي التقطتها في بداية الشهر. لم أر غير أشباح غابة. وجه البحيرة الذي كان لامعا يعكس ألوان الشجر صار ضبابيا بسبب تجمد الماء.

اقترب الشتاء وسأشتاق إلى السيلان. سيلان الماء. هطول الأمطار. "وشوشة" العصافير، زقزقة الطائر الأزرق الذي يأتي إلي حديقتي كي يأكل أوراق النعناع كلما أينعت. في كل صيف كنت أقتني النعناع وأزرعه في حوض الحديقة. اتسعت رقعة الحوض مع توالي السنين. لكنني لا أحب الشاي. أنا مدمن على القهوة فقط. أحتاج إلى مخدر يقيني صداع المنفى.
أحتاج إلى رائحة تذكرني بالسهر وليالي المتوسط الهادئة. أزرع النعناع فقط كي أتذكر تلك الجلسات على شاطئ المتوسط، حين كنت أتابع رحلة الشمس في اتجاه المغيب. كان مشهد الأفق وامتداد الأطلسي يشدني إليه.. هناك في كاب اسبارطيل، أو "القريقية". كان المدى قِبلتي الحقيقية، ولم أكن أعلم لماذا! استهواني أفق الأطلسي لأني كنت أبحث عن النقطة التي تلتقي فيها زرقة السماء والبحر.
هذا وهمٌ آمنت به حين أدمنتُ أشعار رامبو وبودلير. التقطتُ عشرات الصور وخلفي الشمس تسافر في رحلة الدوران في اتجاه الغيب. كان المنفى يناديني من بعيد، ولم أكن أدري! وغالبا ما كنت أرشف كأس شاي بالنعناع وأنا أغازل الحاضر والمستقبل. واليوم، إلي جانب حوض نعناعي شجرة الكروم التي ورثتها عن الإغريقي المهجر.
أختزل الذاكرة في نصف حديقة. طفولة في أصيلة وأنا أمر بباب الحُمَر، وشجرة الكروم التي تذكرني بسهول الغرب ومواسم الحصاد في بلدة جدي على قدم الريف! صارت حديقتي ذاكرة الصور القديمة التي خزنتها في داخلي.. غاب الطائر الأزرق عن حديقتي. ذبلت أوراق النعناع مع التساقط المبكر للثلوج. وأخبار الدفن والغياب والعبور تملأ أوقاتي الآن.. لا أسمع غير أخبار الموتى والرحيل. حتى أنا ميت ما دمت قد رحلت.
هم رحلوا إلى عالم لا أعرفه، وأنا رحلت إلى عالم لم أكن أعرفه! أفكر في زيارة وطن قديم! وأعدل عن الفكرة.. فأنا هش لا أحتمل أن أمر بشارع غابت عنه وجوه ألِفْتُها، ولا دار سكنتها وقهقهت فرحل عنها أصحابها... كيف حال الدروب التي كنت أحسبها لا تنتهي! وكيف هي الشوراع التي كنت أعتقدها أجمل الصور في العالم، وكيف حال الأحياء، وما أخبار الموتى، وما هي عناوينهم وراء أسوار القبور! كم قبر عليّ أن أزور حين سأعود!؟ ومع من سأرتشف كأس الشاي على شاطئ الأطلسي أو المتوسط؟! عدت إلى البيت ووجدتُ الأدراج المؤدية إلى بيتي ملأى بالثلوج. لماذا، يا ترى، حين يزورنا الموتى في المنام لا نتذكر موتهم في حضورهم؟! فقدت الكثير من الوجوه التي عرفتها في حياتي، وكنت دائما أتأثر بغيابهم، وكأني في كل موت أكتشف الموت من جديد. فقد صارت لدي معان متعددة للموت، بقدر عدد الذين رحلوا وطرّزوا قلبي بالألم وعقلي بالصور! مع ذلك يبقى الموت الحقيقة التي يصعب أن أتقبلها بسهولة.
في كل مرة أحتاج إلى آلة الصبر كي أتحمل الغياب. لكن ما تعلمته من موت كل الذين غادروا الحياة وتقاسمت معهم لحظات، أن لا شيء يمكنه أن يفاجئني في هذا العالم.. لا شيء على الإطلاق! صباح الخير يا شكري، مساء الخير يا حسن المتوسطي، تصبح على زمن جديد يا جعفر!» أتعبتني العاصفة الثلجية التي أغرقت كل شيء تحت هذا البياض الخادع. أتعبتني إزاحة الثلوج من أدراج بيتي. كانت تسلية في السنوات الأولى، لكنها اليوم صارت محنة حقيقية، فكيف سيصير الأمر مع تقدم العمر!؟
لم أر السناجب تلعب فوق الشجرة المقابلة لبيتي، أين اختفت يا ترى؟ حين أطالع النصوص التراثية أحس بمتعة غريبة لا مثيل لها. فهي تنسيني كل شيء، من التعب البدني إلى العزلة والرداءة والخوف.

دلالات
المساهمون