همس المساء

12 اغسطس 2017
+ الخط -
همست في أذن المساء بكلماتٍ قلّ من يتوقعها أو يتخيّلها. نعم بيني أنا والمساء لغةٌ خفية لا يفهمها أحد سوى من ألهمني بإتقانها، وبضعة نجوم استرقت سمع حديثنا ذات ليلةٍ مقمِرة اُنتزِعَ من على كتفيها وشاح الظلام.
بالطبع، لم يكف القمر عن التحديق في عينيَّ، وفي همساتي، لعله يعرف ما تتحرّك به شفاهي، ولعله يخمّن ما سأقوله، لكنّه لن يستطيع اختراق هذه اللغة التي لا يتداولها في العالم، سواي أنا والمساء. هذه اللغة التي لن يتقنها من بعدي سوى المساء وبضعة أنجمٍ من نجوم السماء الكُثر. أمنيتي أن أكون معهم بكل ما أحمله من خيبات أهل الأرض، ولكن من كان قدره العيش في الأرض بمساوئها، لا يمكن له أن يعيش مع نجومٍ بريئة.
كان المساء يبدو مثل عشيقٍ تحت نافذة عشيقته التي حُكم عليها بالسجن في غرفتها، وليس لديها إلا تلك النافذة، وذلك العشيق الذي يزورها باستحياء وخوف بين الفينة والأخرى، ليخبرها بصوت خافت جدًا، أنه بخير وقد اشتاق لها.
كان همسه خفيفًا كسحابة صيفٍ أفرغت كل ما تحمله من ماء على مزارع الأفيون، وكنت أنا كمدمن الأفيون حقًا، لا أفرّق بين المساء والسماء، المهم أنّي كنتُ أُهمسُ للمساء وأنظر إلى السماء.
لا يـهُم فالسماء كانت قد أخذت كثيرًا من حديثنا.
عُدت إلى حديثي مع المساء، بلغتنا المعتادة. ولكن وجدته قد ذهب بعيدًا عن ذلك الهمس، وبدا صوته يعلو قليلًا كسيمفونية قديمة في يد شاب يبلغ من العمر ألف مساء ومساء.
كنتُ مستمعًا جيدًا، وكان المساء متحدثًا جيدًا، ويتقن كل قواعد الحديث وفوق ذلك لغة العشاق (الهمس)، ولكن مرتفع قليلًا بمقدار نغمةٍ كل ثانية، بمقياس ريختر الخاص باهتزازات المشاعر لا الزلازل.
همس في أذنيّ حتى لفحتني حرارته: منذُ كم من الحنين انتظرتني؟
منذُ تلعثمت، فسقطت إحدى كلماتي من طرف لساني حتى أطراف أصابع رجلي اليمنى، فكادت أن تقطعها، فعجبت كيف لي أن أرغب بالحصول على جناحين، ولم أستطع بعد حماية أصابع رجليَّ، ونزفتُ قليلًا من الصمت، وأعدت تشكيل جملة اسمية مفيدة، لا تحمل فاعلاً ولا مفعولًا.
ظلّ المساء ينظر إليَّ، ويبدو في عينيه شرودٍ يكاد الكحل الأسود أن يطغى عليه، فرفعت عينيَّ إليه وسألته بسخرية: ما لهذا الشرود يلملأ عينيك؟
لم يرد بتلقائيةٍ، كما تعودت منه، بل ظل يقلّب عينيه يمنةً ويسرة، كمن ينتظر الفرصة المناسبة لإصطياد غزالة شاردة في غابةٍ تكاد تخلو من صيد المصادفة، وأجاب وقد تساقطت من على لسانه نجمتان وكوكب يتيم. ربما ما تراه عيناي من تصرفات بني الإنسان قد أوردني هذا الشرود، فالإنسان الذي احتضنته مُذ خُلِقتُ صار يؤذيني بصخب القناديل الصناعية ودخان الشموع، ولم يكتفِ بذلك بل أصبح ينتظر ذلك النصر الذي يأتي على أكف الشمس بتبديد وجودي وهدوئي، ومحو ملامحي بقليلٍ من الأعذار المستهلكة، لأصبح بعدها كصورةِ شهيد معلقة على خد وطنٍ أفرط في إخفاء قباحته خلف مستحضرات التجميل.
D3DEB331-FD61-412F-A981-A02DF5C92998
D3DEB331-FD61-412F-A981-A02DF5C92998
مطهر الخضمي (اليمن)
مطهر الخضمي (اليمن)