24 أكتوبر 2024
هل يمكن عزل قطر؟
تكشف تطورات الأحداث في منطقة الخليج العربي عن طبيعة الفرز الحاصل في المنطقة العربية بين الأنظمة السلطوية الراغبة في تأبيد وضع الاستبداد واستبعاد الشعوب من صناعة القرارات التي تحدّد مصيرها وبين الجيل الجديد الراغب في التحرّر وبناء مستقبل أفضل. قد يكون هذا التصور عاماً، ويتغافل عن تفاصيل كثيرة بين ثنايا الأحداث المتصاعدة في المنطقة، وعلى مستويات مختلفة، غير أنه يمكن قراءة الأحداث الحالية من خلال مواقف أطراف الخلاف الخليجي من القضية الفلسطينية، ومن الثورات العربية، والتي قد تكون القشّة التي قصمت ظهر البعير.
فمنذ اندلاع شرارة الربيع العربي، كانت المواقف مختلفةً إلى حد التضاد بين رؤيةٍ قطريةٍ تراهن على الشعوب، وترى أن من حق المواطن العربي أن يأخذ مصير بلده بيده. ومن هنا، كان دعمها دول الربيع العربي، ورغبتها في نجاح تجاربها السياسية الناشئة، في مقابل التحفظ الذي أبدته الدول الأخرى المجاورة لها، والتي تجاوزت حدود الامتعاض مما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن، نحو محاولة تقويض استقرار هذه الدول، والدفع بها نحو خيارين كلاهما سيئ، أعني خياري العودة إلى مربع الاستبداد أو الوقوع في براثن الفوضى والإرهاب. وكان التوجه الإماراتي المعلن، والرافض كل تحول ديمقراطي في المنطقة العربية، والمبني على رؤيةٍ أساسها الدفع نحو منطق الانقلاب، كما جرى في مصر، أو محاولة توتير الأوضاع، ودفعها نحو التعفن، كما هو حاصل في ليبيا وفي اليمن بشكل أوضح.
وفي تونس، من الواضح أن الأجندات الإماراتية المختلفة قامت على محاولة استنساخ النموذج المصري، غير أن المشهد التونسي لم يكن مطواعاً، بمعنى أن استمرارية وضع الحريات
والعمل السياسي التعدّدي كان عائقاً فعلياً في منع أي محاولةٍ للتحكّم في مصير الوضع السياسي، أو تسييره بشكلٍ يلغي مكتسبات الثورة التونسية، فالإمارات التي امتنعت عن دعم تجربة الانتقال الديمقراطي التونسي، ولم تقدم أدنى مساعدة فعلية للدولة التونسية، واستعاضت عن ذلك بمحاولة إيجاد موطئ قدم، عبر تجنيد متمولين أو وسائل إعلام خاصة تمارس التشويه للثورة التونسية، وتبث الدعايات، وتحاول تغيير توجهات الرأي العام التونسي. وهو أمر كشفت التطورات أخيراً أنه ليس أمراً يسيراً. فإذا استثنينا أصحاب المصلحة المباشرة في علاقةٍ بدولة الإمارات، فإن توجهات الرأي العام التونسي، في غالبها، لا تميل إلى تأييد الخطوات التي اتخذها أخيراً التحالف الإماراتي/ السعودي. فالصورة الذهنية التي يحملها المواطن التونسي عن الدولتين، من الناحية السياسية، ليست إيجابية تماماً، وإذا أضفنا إليها محاولة اتهام حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالإرهاب فإن هذا التصرف أفقد التوجه الإماراتي السعودي الكثير من مصداقيته وتأثيره، فغالبية الشارع التونسي يرفع القضية الفلسطينية وفصائل المقاومة إلى مرتبة تقارب المقدسات، ولا يقتنع بتبريراتٍ واهيةٍ لمحاصرتها، أو نعتها بالإرهاب، وهو سلوك يراه كثيرون من قبيل التخندق مع العدو الصهيوني. كما أن الموقف الرسمي التونسي الذي رفض الانسياق وراء الضغط الإماراتي السعودي، واختار موقع الحياد، وتجنب الوقوع في لعبة الأحلاف، وهو في هذا يضع نصب عينيه مراعاة توجّه الرأي العام الداخلي أولاً، والحفاظ على المصالح الوطنية التونسية (قطر ثاني أكبر مستثمر اقتصادي في تونس بعد فرنسا). ثانياً والأهم محاولة النأي بالبلاد عن حالات النزاع ونشر الفوضى التي ترعاها جهات إماراتية نافذة في ليبيا المجاورة، والتي تسبب القلق للجارتين، تونس والجزائر.
كان السعي الإماراتي السعودي إلى تعميم الأزمة، وتحويلها إلى مشكل دولي، ومحاولة دغدغة
مشاعر اللوبيات الصهيونية النافذة، من خلال رفع شعار محاربة الإرهاب المفترض الذي ترعاه الدوحة، إلا أن هذا التوجه لم يفلح في عزل قطر التي نجحت، منذ سنوات، في إحداث نوعٍ من الرأي العام المتعاطف معها، في إطار ما يمكن تسميتها الدبلوماسية الشعبية مقابل الدبلوماسية الرسمية التي يعوّل عليها خصومها. ولأن الحسابات السياسية قد تفاجئ أصحابها بنتائج غير مرتقبة، فإن صمود قطر وامتصاصها قرار الحصار، في مرحلة أولى، ثم تحولها إلى مرحلة تفعيل علاقاتها الدولية الواسعة، وضع الطرف المقابل في الزاوية، وهو أمر تكشف عنه حالة الاضطراب وغياب وضوح الرؤية في تصريحات وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير. ففي الفعل السياسي، الأهم من القرار أن يتوقع صاحب القرار ما الذي سيحصل لاحقاً، وكيف يمكن التعامل معه؟ غير أن الحلف الإماراتي السعودي تصوّر انهياراً سريعاً لقطر، وسعيها إلى طلب الصفح، ولم يضع في الحساب قدرة صاحب القرار القطري على قلب المعادلة، بل وإفقاد الخصم جملة نقاط القوة التي انطلق منها، بداية من فكرة الحصار الاقتصادي السخيفة، وانتهاء بتعرية السقوط الأخلاقي المدوي لدولٍ كانت دوماً تدّعي حراسة القيم والدفاع عنها على الأقل علنياً. ومن هنا، يمكن القول إن قرار عزل قطر كان فعلاً سياسياً صبيانياً يفتقر إلى الحصافة، وهو أقرب إلى ردود الأفعال غير المحسوبة منه إلى فعل سياسي واعٍ ومسؤول.
فمنذ اندلاع شرارة الربيع العربي، كانت المواقف مختلفةً إلى حد التضاد بين رؤيةٍ قطريةٍ تراهن على الشعوب، وترى أن من حق المواطن العربي أن يأخذ مصير بلده بيده. ومن هنا، كان دعمها دول الربيع العربي، ورغبتها في نجاح تجاربها السياسية الناشئة، في مقابل التحفظ الذي أبدته الدول الأخرى المجاورة لها، والتي تجاوزت حدود الامتعاض مما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن، نحو محاولة تقويض استقرار هذه الدول، والدفع بها نحو خيارين كلاهما سيئ، أعني خياري العودة إلى مربع الاستبداد أو الوقوع في براثن الفوضى والإرهاب. وكان التوجه الإماراتي المعلن، والرافض كل تحول ديمقراطي في المنطقة العربية، والمبني على رؤيةٍ أساسها الدفع نحو منطق الانقلاب، كما جرى في مصر، أو محاولة توتير الأوضاع، ودفعها نحو التعفن، كما هو حاصل في ليبيا وفي اليمن بشكل أوضح.
وفي تونس، من الواضح أن الأجندات الإماراتية المختلفة قامت على محاولة استنساخ النموذج المصري، غير أن المشهد التونسي لم يكن مطواعاً، بمعنى أن استمرارية وضع الحريات
كان السعي الإماراتي السعودي إلى تعميم الأزمة، وتحويلها إلى مشكل دولي، ومحاولة دغدغة