تواجه الرواية مأزقاً في الحروب وفترات الكساد والانحدار وغيرها من الأزمات الكبرى التي تتميز باتساعها، وامتداد تأثيراتها إلى المستقبل. فالشائع أنه لا يصح للرواية التصدي للكتابة عن الحرب إلا بعد مرور زمن يُقدّر بنحو قرن على انتهائها، وانكشاف ساحاتها ونتائجها، والكواليس التي رافقتها... الخ. أما الروائي الذي يتنكب عناء كتابة رواية من دون توفر هذه المعطيات، فلن تكون روايته ناضجة.
تتميز الأزمات الكبرى بحكم حجمها الزمني أنها تمرّ بمراحل عدّة، فالثورة السورية مرّت بمرحلة سلمية اتخذت شكل المظاهرات، ثم بمرحلة الانشقاقات وحمل السلاح، أعقبها في ما بعد مرحلة تسارعَ إلى "نصرتها" إسلاميون أصوليون من أرجاء العالم، واكبها تسلّل لمليشيات مذهبية من بلدان مجاورة لنجدة النظام. تلاها تصلّب الأطراف القادمة من الخارج، تميّزت بالتشدد والوحشية، وما زالت. ثم المرحلة التي تبدو الأخيرة، تدخل بلدان أجنبية، أبرزها التدخل العسكري الإيراني والروسي.
يستحيل على أية رواية، الإحاطة بهذه الأوضاع المتلاحقة، فالتاريخ شأن المؤرخين. لا سيما أن المعارك تُخاض على عشرات الجبهات، تشارك فيها إضافة إلى الجيوش، مئات الفصائل الإسلامية من الطرفين. ما يمنع الكتابة عنها بشكل شامل، إلا بتقطيعها إلى روايات لا تحصى، يُتقصى فيها عدا المجرمين، الأشخاص الذين تعددت مصائرهم بين الحصار والتجويع والتركيع، والخروج إلى الملاجئ في الداخل، وإلى بلدان الجوار في الخيام، أو المنافي، بسلوك طريق الموت على الطرقات، والغرق في البحر للوصول إلى اوربا، على أمل التكيف في دول المهاجر.
ثمة كمٌ هائل مما يستطيع الروائي الكتابة عنه... مع نهايات مؤقتة، هي مفتوحة، كالخروج من الحصار، أو الحصول على طعام، أو النجاة من قذيفة، أو الوصول إلى شاطئ الأمان. أما بعدها فمن يدري، ما الذي سيحصل لهم؟ هل يظفرون بالأمان في المهجر، وينجون من اعتداءات العنصريين؟
في السنوات المنصرمة، اختار كتّاب سوريون الانتظار لأسباب جوهرية حقيقية، أو انتهازية. وجرى انتقاد ما يكتب بذريعة الاستعجال، أو الطائفية، وعدم النضج، والإسهام بنزيف الدم السوري، وأيضاً بذريعة أن الحرب تحيلنا إلى الأيديولوجية، لما فيها من شبهات إسلاموية مذهبية وطفولية يسارية... ثم أن الروائي غير مكلّف بحرب يخوضها المسلحون؛ مهمته لا تبدأ إلا بعد انجلاء دخان الحرائق. وهكذا لا تكف الأحداث عن الاحتدام، بينما الروائي عاطل عن العمل، يحيطه الخراب، وحوله الضحايا بالآلاف، في انتظار زمن ما ليكتب عما يجري الآن بمتناول بصره.
هذا المشهد بالَغنا في تبسيطه، إزاء حدث هائل، لا يحق للكاتب إغفاله سواء كتب رواية أو مقالاً، أو حتى تعليقاً، إنها مسؤولية أخلاقية وإنسانية، ففي مقاربة التفاصيل الغزيرة للحرب تكمن المعاني الأشد إيلاماً للعذابات والخيانات، التفوق والانحطاط، وحشية الإجرام وإرادة العيش، ومعجزة البقاء أحياء وسط عواصف الكراهية، وأن الغباء بلا حدود... هل بوسع الكاتب تجاهله في مهنة مادتها البشر والمصير، العدالة والحقيقة؟