هل تحمل عودة أميركا إلى العراق حلاً؟
يوم دخلت أميركا العراق غازية، في أعنف حملةٍ استعمارية، شهدها مطلع القرن الحادي والعشرين، كان أن حملت معها الكثير ممّا يمكن أن ينضوي تحت عنوان "شرور الاستعمار". فهي، بغزوها هذا، لم تُسقط نظاماً قائماً فحسب، بل أسقطت "دولة"، بكل ما تعنيه الدولة من وجود: من نظام إداري متمدّن، ومؤسسات ذات طبيعة إدارية وخدمية.. وحلّت الجيش، تكويناً ومؤسسات، وكذلك المؤسسات الأمنية، بما فيها الشرطة المحلية، وشرطة المرور، وبدا المقصود من هذا للجميع، باستثناء العملاء الذين التحقوا بالركب الغازي، إشاعة الفوضى بأبعادها كافة: من نهب وسلب لكل ما يمكن أن تطاله الأيدي، وبلصوصية معلنة، إلى جرائم قتل، وعمليات استباحة لمؤسسات الدولة، شملت محتوياتها كافة، حتى بلغت أحجار البلاط، ناهيك عن الأبواب والشبابيك. وأكملت أميركا "العملية"، فأنهت ما تبقى للبلد من أسلحة، من البندقية إلى أكبر آلية عسكرية، إذ سحقتها بآليات خاصة، معدّة لمثل هذه "المهمة"، وأتاحت لمَن شاء تصديرها "حديد خردة" إلى بعض دول الجوار، لصهرها وصنع ما تشاء صناعته من حديدها. باختصار: غزت أميركا العراق، ودخلته بروح عازمة على التدمير الشامل، فكانت النتيجة أنها أوجدت مجتمعاً، ما يزال يتخبّط بفوضاه.
هذا كله في جانب. وفي جانب آخر، كان التدمير الثقافي والحضاري لبلد تمتد ثقافته وحضارته إلى أكثر من خمسة آلاف سنة. وإذا كان الحديث في هذا يحتاج لتفصيل كبير، فإنه لا يحول دون الاشارة إلى عمليات "التوظيف الثقافي" التي قامت بها أميركا، وجنّدت لها مَن تعارفنا على تسميتهم بـ"المارينز الثقافي" الذين يتحدّرون أصولاً من إيديولوجيات قومية، وأخرى يسارية، وحملتها من "واقعها التقدمي" المزعوم إلى القتال في صفوفها، ولكن، بالقلم والخبرة، فوضعوا لها ما يكتمل به مشروعها الاحتلالي من "استراتيجيات"، مثّلت الثقافة طرفاً منها، معتمدة هدم ما هو قائم، والبناء وفق ما تمليه الاستراتيجية الأميركية، وقد فعلوا هذا باستجابة إيجابية مطلقة، ومن دون حرج أمام ما كان لهم من تاريخ!
ولم يكن هذا إلا جزءاً من المخطط الاستعماري الأميركي الذي بدأ باحتلال العراق العام 2003، وهو "إسقاط النخبة" الثقافية والسياسية، وتحويلها من "صاحبة دور" اجتماعي واضح، إلى تابع مردِّد شعارات ليبرالية، جعلوا منها واجهة، ومنفذاً لعبور الطائفية التي ما لبث أن انضم إلى عديدها من العوام غير قليل ممّن كانوا يُعدّون من "مثقفي النخبة" الذين استجابوا استجابة غريبة لأطروحات، واضطلعوا بممارسات كانوا، حتى الأمس القريب، بعيدين منها، إن لم نقل من "خصومها الإيديولوجيين"، وهو ما سيُحوِّل المجتمع من "هويته العربية" إلى "مجتمع فِرَقي" تسوده الانقسامات الطائفية، ويتحكّم به منطقها.. حتى أصبح "النظام الطائفي"، بما انفتح عليه من نتائج، حالة مقلقة لدول عربية أخرى، ما يعني أن استمراره سيجرّ من السلبيات ما ينعكس على "المشروع الأميركي" الذي بدأ باحتلال العراق، جاعلاً منه نقطة ارتكاز في المنطقة، ومنطلقاً لاستكماله على "مساحات أخرى". فهي، في الوقت الذي وجدت في الانقسامات الطائفية (سنّة وشيعة)، والإثنية (الكرد) إنهاءً لـ"المشروع القومي العربي"، والحيلولة دون أية "وحدة عربية" مأمولة، كما دون أية "حالة تكامل اقتصادي" بين أقطار الأمة.. كان لهذه الانقسامات أن أحدثت شروخاً عميقة في البنية المجتمعية، كما في البنية الذاتية لإنسان هذا المجتمع، وألغت كل ما لها من "أصول تاريخية"، وهو ما تحتاجه أميركا لفرض مشروعها، من دون "مقاومة"، أو عقبات تُذكر.
واليوم، تعود أميركا إلى العراق، البلد الذي خرجت منه "خروجاً شكلياً"، وبـ"نموذج" من قواتها العسكرية، تحت غطاء لا يُخفي النيات، وهي تعد بما هو أكثر عدداً، وأوسع انتشاراً، وكأنها تعتزم "تجديد احتلالها" له.. ولكن، في هذه المرة، ليس تحت لافتة "إسقاط النظام"، وإنما لـ"حماية النظام"(الذي هي مَن وضعت له أسسه المهتزّة) من "شرور" تواجهه، وتأتي الإشارة التأكيدية من غير مصدر استراتيجي إلى أنها، أميركا نفسها، هي مَن صنعها، وجعل لها مبررات الدخول في ما يقترب بالبلد من "حرب أهلية"، يساعد عليها "التأجيج الطائفي" الذي يُهدد تصاعده بالتقسيم، كما يقول بذلك المخطط الأميركي الحامل خارطة "الشرق الأوسط الجديد"، والذي لن يكون سوى "سايكس ـ بيكو" جديد.
والسؤال الذي يُثار هنا هو ما إذا كان لهذا كله من علاقة، مباشرة أو غير مباشرة، بالعولمة (اكتسبت تسمية هي الأقرب إلى واقعها: "أمركة العالم"؟) وذلك بما وصلنا إليه، بنتيجة الغزو الأميركي، من حال "انقسام"، ودعوة الى "التقاسم" (الذي عُرِّفَ بـ"المحاصصة")، ما جعل للعولمة مناخها المثالي، وهيأ لها استبعاد وتهميش الفكر المناهض لها، والذي هو، اليوم، في حال انسحاب وضعف، ما يشكل حالة انتصار آخر، على صعيد فكري وثقافي واقتصادي، لأميركا؟
إن "اليقينيات" التي كسرت ثقافة الستينات والسبعينات من القرن العشرين الجانب الأكبر منها، عادت، اليوم، بصحبة المحتل الأميركي، وقد غذّاها لتُصبح "تجلياً" من تجليات الذات المجتمعية التي أصابها شيء من التخلّف، في سنوات الحصار على العراق، ولم يلبث أن تفاقم من بعد الاحتلال، مشكلاً أزمة مجتمعية ساحقة، بحكم ما أوجد من حالة "استجابة جماعية" لمنطق التخلف، لنواجه، اليوم، واقع ارتباك تاريخي، يتحوّل فيه المجتمع، ولكن.. باتجاه الماضي، وبرؤية أبرز ما فيها: الخوف من المستقبل.
وإلى هذا، لم يعد هناك دفاع عن الحرية، في أبعادها الشاملة للوطن والإنسان، ولا عن الاستقلال في أبعاده السيادية.. كما لم يعد هناك ما يمكن أن نطلق عليه "خطاباً وطنياً"، بُعداً ومحتوى. لقد كسر "الواقع المستجد" ما لهذا التوجّه من مقومات، وأفرغها من مضموناتها الفعلية، لنعيش، كما نحن اليوم، في واقع مستلب لإرادات ليست منه.. واقع خاضع لضرب من "الاستبداد السياسي والثقافي"، يجرّه، بكليته، إلى انهيارات حتمية، من شأنها أن تُخرجنا من التاريخ.
إن عودة أميركا، قواتٍ عسكرية، إلى العراق لا تحمل حلاً، إلا إذا أخذنا "الحل" بالبعد السلبي الذي عرضنا له.