الخروج من التاريخ

09 نوفمبر 2014

المجتمع، بوصفه وجوداً جمعياً، أضحى منقسماً على نفسه(Getty)

+ الخط -

يذكر مؤرخ عربي أن المغول يوم دخلوا بغداد، واستباحوها، وقف واحد من جند هولاكو على ناصية دربٍ من دروبها، ومرَّ من أمامه مائة رجل، فقتلهم الواحد من بعد الآخر. ولا يملك مؤرخنا أمام ما يروي إلا القول: أعوذ بالله من الخذلان.

ماذا يعني أن يعيش الكاتب (والقارئ أيضاً) في عالم مضطرب، كل شيء فيه، مما قرأ عنه، أو حلم به، ينهار على نحو مأساتي؟ فإذا ما أراد الكتابة في ما شاءت له موضوعات الواقع الذي يعيش، أن يكتب، فأي معنىً يمكن أن تحمله كتابته هذه إلى الآخرين؟ وما قيمة الكلمة في عالمٍ يُحاصره الجهل والسلاح، ويضطرب بمخاطر الموت في كل لحظة؟

يقولون لك: الإنسان العربي يحتاج، اليوم، إلى كل ما من شأنه أن يوطّن الاطمئنان في نفسه، فهل في مقدور كلمة الكاتب أن تحمل إليه شيئاً من هذا؟ وحين يسأل هذا الإنسان: لمَ يحصل له ذلك؟ وما الذي ارتكبه مع الحاضر/ في الحاضر، لتتم مصادرة الغد منه على هذا النحو القاسي؟ بل وجدت من يقول محتجاً ومعترضاً: ما ذنب ذلك الذي كان يحلم بالغد على نحو جميل، لكنه ما أن فتح لنفسه أول باب على الحياة، حتى دهمه الموت اغتيالاً، وهو الذي لا ذنب له، ولا خطيئة ارتكب سوى... إنه كان يحلم!

وصادفتُ قارئاً يتساءل بإلحاحِ يائس، وهو يواجه كاتباً: ما قيمة ما تكتبون وأهميته إزاء هذا؟ وماذا يمكنك، أنتَ الكاتب، أن تقدّم لهذا الإنسان، وهو يقف مذعوراً، يواجه رياح الموت، وهي تهبّ عاصفةً بكل شيء؟ ويضيف متسائلاً، ويسأل الكاتب: حين تجد نفسك في مواجهة هذا كله، في محيط حياتك اليومية، الذي هو الآخر يتراجع حتى يُحاصرك، هل يبقى أمامك من معنى، حي وجميل، يمكن للكلمات أن تحمله إلى متلقيها؟

وتخطو به التساؤلات خطوات أخرى: فهل الصراع القائم صراعاً من أجل الحياة والوجود، أم هو "صراع في سبيل الموت"؟ فالموت هو اللافتة الأكبر والأوسع التي تغطي أفق الحياة أمامنا، وتسد علينا منافذ الرؤية، بحيث لم يبق أمامنا من مستقبل يمكن التأمل فيه بوضوح.

وتجد من يقول لك ليزيدك يقيناً بما ترى: إن هؤلاء، وهم يصنعون الموت، لا شأن لهم بالحياة، وهم غير معنيين بما تبحث عنه، أنتَ وسواك، من معانيها.. لذلك، تجدهم إذا ما تحرّكوا يتحركون كالسيول: تجرف كل ما يقع على مسارها، وتنسرب إلى كل ما يستوعب انحداراتها من منافذ. ولذلك، تجدهم يعاملون الحياة بازدراء، ولا يتقنون الحديث عن الإنسان.. لا لشيء إلا لأنهم ينظرون إليه كونه لا يمثل أكثر من "وجود عابر".. كما لو كان دخاناً كذاك الذي يتصاعد مما يُحدثون من حرائق.. فهم أناس ضلت خطاهم طريقها على دروب الحياة التي حددوا غاياتهم فيها، بما يقع في دائرة مصالحهم الشخصية. ما يجعلهم ينظرون إلى سواها كيفما اتفق. فإذا ما أتيح لك أن تحدثهم فتسأل، أو تردد على أسماعهم: إن الحياة شكل، ومعنى، وبُعد وجود يسم بدلالته ما يخلق من شعور ويولّد من إحساس.. قهقهوا ساخرين مما يسمعون، منكرين عليك ما تقول.

فإذا ما أتاحوا لك أن تسألهم عن العالم كما يرونه، أو يريدونه أن يكون، حدثوك عن الموت، لا الحياة، بوصفه "عنصر اكتمال الوجود"، ولذلك، يريدون له أن يظل "المقيم الأكبر"، والأكثر حضوراً على الأرض.
                                        

***

هل كنتُ أتكلم عن "واقع بحقائقه الراهنة"، أم هو كابوس راح يتداعى من ذاتي على الكلمات؟ هل كنتُ أتكلم عن الأعوام الأولى من القرن الحادي والعشرين الذي انتظرناه بتوقعات متخيلةٍ، تحول بعضها واقعاً في بلدان، بينما أصبح في بلداننا "قرن الطوائف"، ليجرّ الواقع والناس إلى جحيم فاق المتخيَّل، وتفوّق بقوّة الفعل عليه؟

ويقول لي الكاتب، وهو يحدثني باستغراب ودهشة: كنا، قبل اليوم، على ألفة مع الكلمة، إبداعاً وفكراً، ونحن نجدها، في الحالتين، تنهض بروح جديدة، سواء جاءتنا من على خشبة المسرح، أم في قصيدة، أم حملها روائي على محمل الخيال، وهو يريد بها الواقع، حتى جعلت الانسان، وهو يتلقاها بإصغاء روحي وتفاعل ذاتي، يمشي وأنت تسمع ما لخطواته من إيقاع، لشدة انتظامه مع الحياة، بما لها من جوهر حي، وهو الذي كان يحملها ليبني للتاريخ منها ما يريد أن يبنيه من مثالٍ، يصعب على كل انكسار. فأين ذهبَ ذلك كلّه؟ ومن هو الذي ذهبَ بذلك كلّه؟

اكتشفنا، فجأة، أن العطب أدرك عصرنا، واستبدّت بنا ناره، فانكسرنا أمامها. وإذا بالضعف يتسرب إلى الشخصية، شخصية الإنسان، مستنزفاً كل ما لها من قوّة.. وإذا بما كنا نستشعره، أو نجد فيه "غنىً ذاتياً"، يستحيل "فقراً ظاهراً" يعيشه الإنسان ويعاني ارتداداته القاسية، بما لها من وقع مدمِّر على الذات.

والمجتمع هو الآخر، وبوصفه وجوداً جمعياً، أضحى منقسماً على نفسه، ولم يعد متاحاً له من الحتميات التاريخية سوى حتمية "الخروج من التاريخ"، لأن البقاء فيه/ ومعه اًصبح متعذراً في واقعٍ، يجهل كل شيء عن المستقبل من بعد أن استبدّ به "الماضي"، لا بأحيائه، وما كان من حياة فيه، وإنما بموتاه!.. فإذا نحن في مواجهة "قوى/ قيم" لا دور لعصرنا في تشكيلها، راحت بما أصبح لها من "سطوة متوحشة" تفترس التاريخ والواقع معاً، معيدة كل شيء إلى "عهد انحطاط جديد"، وهل الانحطاط إلا إضعاف لمقومات الحياة في الواقع، كما في وجود الإنسان، بما يجعل منه إنساناً مستسلماً للقدر، مجرداً إياه مما كان له من نظرة إلى العالم، تم استبدالها بالنظر إلى نفسه في اللحظة التي هو فيها، ليس أبعد.. لا يؤمِّل هذه النفس بما هو أبعد من "قُوت يومها"، لتعيش.. ولا تفكّر!

فهل بلغنا حالة الخذلان التي استعاذ الإنسان بالله منها يوم عاش على عهد المغول ما يعيشه عصرنا من خذلان؟!