هل تبارح تونس مربعها الأول؟

18 أكتوبر 2018
+ الخط -
منذ سقوط رأس النظام السابق، زين العابدين بن علي، ودخولها مرحلة جديدة سمتها تكريس الديمقراطية وبناء منظومة حقوقية، ظلت تونس تراوح مكانها في معالجة مشكلات النزاع الحزبي والتجاذب السياسي المتواصل. وعلى الرغم من الخطوات المهمة المتعلقة بصياغة دستور جديد، وتنظيم محطات انتخابية متتالية، تقوم على التعدّدية والشفافية من حيث النتائج، فإنه من الصعب القول إن هذا البلد استطاع مجاوزة الإرث السياسي لزمن الاستبداد.
فمع الانتخابات الأولى لسنة 2011، استعاد الوسط السياسي في تونس نزاعات سياسية متوارثة عن الحقب الماضية، سواء التجاذبات الإيديولوجية بين التيارات المتناقضة والمتصارعة، أو عودة بقايا النظام القديم إلى المشهد، لاستعادة نفوذهم الذي تخلخل بفعل الثورة، وإطاحة رموز مرحلة الاستبداد، فالقوى الحزبية المؤدلجة التي توصلت إلى توافقات قبل الثورة في إطار ما عُرف في حينه باتفاقات 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2006 عادت إلى التنازع بعد الثورة وبشكل أشد شراسة، فالجبهة الشعبية التي تضم قوى اليسار تحرّكت في أثناء حكم الترويكا من أجل إجهاض الحكومات المتتالية التي تولت السلطة حينها، واستخدمت كل الأدوات المتاحة من أجل إحراج خصومها الحزبيين، وإطاحة حكمهم، وما زاد من توتر الوضع حينها عمليتا الاغتيال المتواليتان، وذهب ضحيتهما شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ولينشأ تكتل سياسي، يضم قوى اليسار وبقايا النظام القديم الذين تشكلوا حينها تنظيميا في إطار حزب نداء تونس، لتنتهي المرحلة بوفاق وطني، أدارته حكومة انتقالية نظمت انتخابات 2014، أفرزت خريطة سياسية جديدة، أهم ما فيها صعود حزب نداء تونس إلى السلطة، وما تبعه من توافق حكومي مع حزب النهضة، الخصم السياسي الذي كان يطالب برأسه قبل 2014.
تعود الساحة اليوم إلى تجاذباتها القديمة/ الجديدة، ومن خلال تقنيات صراع متماثلة، بداية من 
إعلان رئيس الجمهورية عن فك الارتباط السياسي مع حركة النهضة، وعودة الجبهة الشعبية إلى الحديث عن مسؤولية الحركة عن الاغتيالات السياسية، وهي خطواتٌ لا تخرج عن دائرة الصراع السياسي في أفق الانتخابات المقبلة لسنة 2019، ما يعني أن حلم الجمهور الواسع من الشعب بخروج الأحزاب عن دائرة صراعات المواقع ومعارك الإيديولوجيا إلى دائرة البرامج، ووضع الخطط الكفيلة بإخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية ما زال حلما بعيد المنال.
غير أنه من الأكيد أن المشهد السياسي لم يعد كما كان زمن حكم الترويكا، فحزب نداء تونس أصبح شبحا للحزب الذي كان في مقابل تصاعد النفوذ السياسي لرئيس الحكومة، يوسف الشاهد، وما تشكل حوله من ائتلاف سياسي هو في الواقع نواة لحزب مقبل يرغب في الاستمرار بحكم البلاد في المرحلة المقبلة، وهو ما يفترض توافقا جديدا مع حزب النهضة، ولكن بحسابات مختلفة. أما الجبهة الشعبية، وعلى الرغم من حملتها الدعائية ضد "النهضة"، وتحميله كل خطايا المرحلة، فإن قياداتها لم تدرك بعد أن شعاراتها لم تعد قادرةً على اجتذاب الشارع الانتخابي، مع تغيّر المزاج العام وغياب الحماسة الشعبية لشعارات الإيديولوجيا، بل ونفورها من الأحزاب، بسبب هذه الشعارات بالذات، فالجيل الذي شهد ثورة 2011 طفلا قد بلغ سن المشاركة الانتخابية، وهو ليس معنيا بصراعات عجائز السياسة الذين يتوارثون نزاعاتهم القديمة، ويعيدون إنتاجها ثم تصديرها إلى المستقبل، بشكل جعل البلاد تبدو عاجزةً عن التقدم نحو خياراتها الضرورية من حرية وديمقراطية وتنمية اقتصادية.
الأزمة الراهنة التي تعيشها تونس حاليا سياسية قبل كل شيء، والعامل المركزي فيها تنازع 
الأحزاب وصراعاتها المتواصلة خارج طموحات المواطن وآماله في مستقبل أفضل، فمجلس النواب الحالي، وعلى الرغم من مشارفته على انتهاء عهدته فشل في تشكيل المحكمة الدستورية، وهي خطوة ضرورية في استكمال بناء دولة القانون. وانشغل النواب بالبحث عن مصالحهم الذاتية عبر التنقل من كتلة برلمانية إلى أخرى، أو في التنازع السياسي غير المجدي، الأمر الذي أفقد الشارع الثقة في الجهاز السياسي الحاكم برمته. وربما كان للنظام الانتخابي التونسي سوءاته التي جعلته يُنتج برلمانا متشظيا لا يمكنه أن يفرز أغلبية حاكمة يمكن محاسبتها، وهو بشكله الحالي سيفرز النتائج نفسها في أي انتخاباتٍ مقبلةٍ، مهما كان الحزب الذي سيحتل المرتبة الأولى.
والأكيد أن الخروج من الدوامة السياسية الحالية يقتضي تحولا حقيقيا من ناحيتين، أولاهما تغيير بنية الأحزاب الحالية التي تقودها مجموعة من العجائز التاريخيين، وصعود مسؤولين جدد قادرين على إدارة البلد. ومن ناحية ثانية لابد من مراجعة القانون الانتخابي بوضع عتبة انتخابية على الأقل بما يسمح بوجود كتل كبيرة قادرة على الحكم. أما المعضلة الأخيرة فهي مشكلة النظام ذي الرأسين، أي التنازع الدائم بين رئيسي الجمهورية والحكومة، بما يعني ضرورة الاتجاه إلى أن يكون الحكم رئاسيا أو برلمانيا تاما، وهذه خيارات قد لا نراها تتحقق في المدى القريب على الأقل.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.