هل الوهابية مسؤولة عن "جاستا"؟

11 أكتوبر 2016
+ الخط -
تختبر أميركا ذاكرتنا، وتختبر سطوتها الاستعمارية على شعوب الأرض. هذه المرّة ليس بالسلاح العاري، وإنما من خلال تشريع قانونٍ يجيز لها تحديد من هم رعاة الإرهاب، ثم جلبهم إلى العدالة، كما جلبت العراق وليبيا من قبل. لكن قانون جاستا أتى ليقتصّ من الحليف التاريخي للولايات المتحدة، المملكة العربية السعودية، التي طالما شاركت في تنفيذ سياسات واشنطن، ولو على حساب مصالحها الخاصة.
كثير هو الكلام الذي قيل في الرابط بين الوهابية، العقيدة الرسمية التي تتبناها المملكة، وصدور قانون جاستا الذي تسمح بموجبه أميركا لرعاياها بمحاكمة الدول الداعمة للإرهاب، بما فيها السعودية. ثمّة من يتهم الوهابية مباشرةً، ومن خلفها المملكة، ويحمّلها مسؤولية تفريخ المتطرفين والإرهابيين حول العالم. وهذا القول، سبق لوزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، التصريح به في صحيفة نيويورك تايمز، في مقالته "لنخلص العالم من الوهابية". وسبق للصحيفة نفسها أن نشرت تقريراً مطولاً عن الوهابية والتطرّف حول العالم بعنوان: "السعوديون والتطرّف: مشعلو النار ومخمدوها"، تناولت فيه "الدور الذي لعبته الوهابية في نشر التطرّف، عبر الأنفاق الباذخ الذي مارسته المملكة نصف قرن، بصرف عشرات المليارات، بحيث شوهت التقاليد الإسلامية، كما ساهمت في إسقاط الإسلام المعتدل حول العالم".
كذلك بثت قوى مناوئة للسياسة السعودية في المنطقة خطاباً حمّل جريرة ولادة "داعش" للأيديولوجيا السعودية، بسبب تشابه الأدبيات، واعتماد التنظيم على بعض الشرعيين المتخرجين من جامعات الأخيرة، كما سبق لتنظيم داعش أن استخدم مناهج التعليم الدينية الرسمية السعودية في المناطق التي سيطر عليها، قبل أن يتمكّن من طباعة مناهجه الخاصة، ما يوحي للمتابع كأن ثمة تلازماً بين الأيديولوجيا السعودية وولادة "داعش"، في حين تتجاهل هذه القراءة السطحية المرتكزة على التطابق الثقافي العوامل السياسية والاجتماعية التي خلّفها الاحتلال الأميركي للعراق، وأيضاً العلاقة المشبوهة بين الجهاديين والاستخبارات الأميركية منذ أفغانستان.

لابد للقارئ من المرور على تاريخ الوهابية والانقسامات التي حدثت فيها، والتفريق بين الوهابية الرسمية والحركات الجهادية التي خرجت بعد حرب أفغانستان، تلك التي خططت الاستخبارات الأميركية لصناعتها تسليحاً وتدريباً وتأهيلاً، بالتعاون مع باكستان والسعودية، لخوض حربٍ لم يكن للعرب ناقة في معركتها ضد السوفييت ولا جمل، فضلاً عن وجود معركةٍ عربيةٍ حية في فلسطين، لم يُعرف للحركة الجهادية فيها طلقة رصاصة واحدة، بما يدعم تقييمنا هذه الحركات، وهو أن الجهادية العربية حركة ولدت في رحم الاستخبارات الأميركية، وهي وفيّه لمشاريعها منذ أفغانستان، وصولاً إلى العراق واحتلال الموصل، ثم سورية والقصف الأميركي للجيش السوري في دير الزور، والسماح لقوات "داعش" السيطرة على قمة الجبل المطلة عليها، أو في العلاقة مع جبهة النصرة التي تقاتل تحت غطاء المدفعية الإسرائيلية، وتتعالج في مستشفياتها، وهذه أدلة على تشارك الخنادق مع الاستعمار.
انطلقت الدعوة الوهابية، في مرحلتها الأولى، عبر التشارك مع الأمير في تأسيس الدولة السعودية، وكان لها فضل كبير في تعبئة المقاتلين لخوض معارك ضارية ضد خصوم الدولة. لكن، بعد استقرار الحكم انقسمت الحركة قسمين، مطيع للحاكم، وآخر تمرّد عليه اسمه "إخوان من طاع الله"، وهي حركة كانت تعتقد بوجوب نشر العقيدة خارج حدود الجزيرة العربية، لكن هذه الحركة دُفنت في مهدها، بعد أن هزمها الملك عبد العزيز في معركة السبلة، ولم تعرف السعودية فصيلاً جهادياً منذ تلك المرحلة، حتى عمدت أميركا على تحفيز الجهاديين على الانتقال إلى حرب السوفييت.
إذاً، تم تطويع الوهابية، في صيغتها الرسمية الحالية، لمصلحة ترسيخ الحكم، حيث أرست القواعد الفقهية اللازمة لحماية السلطة من التمرّد، من خلال الاستعانة بروزنامة الأدبيات السلفية التي ترى "حرمة الخروج على الحاكم المسلم"، خشية الوقوع في الفتنة. ولهذا المفهوم حضور كبير في خطاب الوهابية الحديثة التي تم تدجين فلسفتها لصالح الاستقرار بعد إخماد حركة الإخوان المسلمين، كما أن المجتمع السعودي، وإنْ تأثر بمنتجات الحداثة والتعليم النظامي، وتبدَّى ذلك في بعض مظاهر التمدّن، إلا أنه يغلب عليه الطابع القبلي في علاقات الولاء والطاعة، ولاتزال ذاكرة سكانه حيةً بتاريخ الاقتتال القبلي الذي كان يسود الجزيرة العربية قبل قيام الدولة السعودية، ما يُضفي على مفهوم الاستقرار أهمية قصوى في العقل الجمعي.
من هذا المنطق، يمكن الراصد لتاريخ المملكة الحديث بسهولة ملاحظة فشل دعوات الخروج على الحاكم، مهما كان مصدرها، بما فيها حركة الصحوة في مطلع التسعينات، وهي حركة سلفية، أو الجهادية في الألفية الجديدة التي استهدفت النظام تحت فكرة ابتعاده عن الدعوة الأصيلة، بل أن شرعية "الجهاديين" السعوديين الذين حظوا بتعاطف عام ودعم مادي سخي، إبّان حرب أفغانستان، سرعان ما تبخّر رصيدهم، بمجرد انتقالهم لمحاولة ضرب استقرار النظام في المملكة.
لكن هذا لا يعني أن الوهابية عقيدة ليست إقصائية، أو إنها تقبل التعدّدية الدينية والمذهبية، فهي تُقسّم العالم فئتين: مؤمنين، هم المنتمون لها، وكفار هم الخارجون على تعاليمها، ولأديباتها حيّز في خطاب الجهاديين، كما أنها تساهم في تشويه سمعة السعودية والسعوديين بسبب الفتاوى المتطرّفة، وتتسبب بحرجٍ شديدٍ للنظام، ولصورته الخارجية، لكن لا يمكن تحميلها مسؤولية الإرهاب، وتبرئة الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان.
مُنطلق قانون جاستا سياسي بالدرجة الأولى، تريد أميركا منه ابتزاز الحكومة السعودية، وغسل يديها عن مسؤولية تنامي ظاهرة الإرهاب، في حين أن الحركات الجهادية خرجت من جعبة الاستخبارات الأميركية، وتكاثرت بفضلها بعد غزوها الفاشل العراق.

59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"