في مثل هذه الأيام قبل 55 عاماً، كان العالم على حافة حرب نووية حقيقية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بعد شروع موسكو بإرسال صواريخ بالستية إلى كوبا في خريف العام 1962، رداً على نشر حلف شمال الأطلسي (الناتو) صواريخ أميركية في تركيا.
وعلى الرغم من الطابع السري للعملية، التي أطلق عليها اسم "أنادير"، إلا أن الولايات المتحدة سرعان ما علمت بنشر صواريخ سوفييتية في كوبا، بعد أن التقطت طائرة تجسس أميركية صوراً لساحات إطلاقها، وفرضت حصاراً عسكرياً - بحرياً على "جزيرة الحرية". وفي 22 أكتوبر/تشرين الأول 1962، ألقى الرئيس الأميركي آنذاك، جون كينيدي، كلمة أكد فيها أن واشنطن لا تنوي المخاطرة بجر العالم إلى آتون حرب نووية، لكنها ستقدم على مثل هذه المخاطرة في أي وقت عند الضرورة. وبلغت الأزمة ذروتها في 27 أكتوبر 1962، إثر إسقاط طائرة استطلاع أميركية من طراز "يو 2" فوق كوبا، وسط إصرار مستشاري كينيدي على استخدام القوة، ما لم تسحب روسيا صواريخها.
وتم احتواء الأزمة بعد موافقة الزعيم السوفييتي آنذاك، نيكيتا خروتشيف، على سحب الصواريخ مقابل سحب الصواريخ الأميركية من تركيا. وبعد انتهاء عملية فك الصواريخ السوفييتية، التي استمرت ثلاثة أسابيع، أعلنت الولايات المتحدة، في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1962، رفع الحصار البحري عن كوبا. وبعد مرور 55 عاماً على أزمة الكاريبي، يرى كبير الباحثين في "مركز السياسة الراهنة" في موسكو، المحلل السياسي المتخصص في الشأن الأميركي، فيكتور أوليفيتش، أن دروس أزمة الكاريبي لا تزال راسخة في عقول الحكام في الكرملين والبيت الأبيض حتى الآن. ويقول أوليفيتش، لـ"العربي الجديد"، "أظهرت أزمة الكاريبي الحد الأقصى الذي قد تصل إليه القوتان العظميان أثناء الحرب الباردة، وشكلت نهاية للمرحلة الحادة من المواجهة". وحول أهم نتائج الأزمة، يوضح "أدركت موسكو وواشنطن أن تداعيات المواجهة المباشرة بينهما ستطاول العالم أجمع، وأنه لن يكون هناك منتصر في حرب نووية. تحولت الحرب الباردة بعد ذلك إلى المواجهة غير المباشرة في بلدان العالم الثالث، مثل فيتنام ودول الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية".
أحداث دراماتيكية كثيرة شهدها العالم خلال العقود التي تلت أزمة الكاريبي، وصولاً إلى تفكك الاتحاد السوفييتي في العام 1991 وانتهاء الحرب الباردة، وتحول العالم إلى نظام القطب الأوحد، إلا أن أجواءها بدأت تعود بقوة منذ التدخل العسكري الروسي في جورجيا في 2008، ثم في أوكرانيا في 2014، وصولاً إلى سورية في 2015، إذ باتت القوات الروسية والأميركية على حافة المواجهة المباشرة من جديد بعد تزايد عدد اللاعبين على الأرض. ويعتبر أوليفيتش أن الوضع في الحرب الباردة الجديدة يتجه نحو التصعيد، وقد تظهر نقاط ساخنة جديدة للمواجهة غير المباشرة، مثل أوكرانيا وسورية، مقللاً، في الوقت ذاته، من مخاوف وقوع صدام مباشر بين روسيا والولايات المتحدة. ويرجع المحلل السياسي الروسي تجدد الحرب الباردة إلى مجموعة من العوامل، قائلاً "أدى صعود نفوذ روسيا والصين على الساحة الدولية إلى تكوين نظام عالمي متعدد الأقطاب، بينما تواجه الولايات المتحدة انكماشاً لحصتها في الاقتصاد العالمي وارتفاع الدين العام، وتراجع نفوذها الدولي. تدرك واشنطن ذلك، لكنها تحاول الإبقاء على الوضع الراهن لأطول فترة ممكنة". ويتابع "ينذر هذا الوضع بتوترات جديدة بين الولايات المتحدة من جانب، وروسيا والصين وإيران من جانب آخر. سيستمر الوضع على ما هو عليه إلى حين قبول واشنطن بالنموذج الجديد للنظام العالمي".
تختلف أزمة الكاريبي عن غيرها من الأزمات في حقبة الحرب الباردة، بأن القوات الأميركية والسوفييتية كانت في حالة التأهب القصوى، ما يعني أن أي قرار خاطئ كان سيؤدي إلى تشغيل الآلتين العسكريتين العملاقتين للقوتين النوويتين. ثمة مفارقة أن أزمة الكاريبي تحولت من خطر اندلاع حرب نووية إلى عامل استقرار وتعزيز الثقة في العلاقات الدولية، بعد أن واجه العالم واقعاً جديداً، لم يعد احتمال نشوب حرب نووية عالمية فيه ضرباً من ضروب الخيال. وعلى إثر أزمة الكاريبي، توجهت القوتان العظميان نحو اتباع سياسة خفض التوتر وتقليص الأسلحة الاستراتيجية وعقد لقاءات بين قادة البلدين. واستمرت هذه السياسة حتى ثمانينيات القرن الماضي، التي شهدت موجة جديدة من سباق التسلح، استنزفت موارد الاتحاد السوفييتي وعجّلت انهياره، لتهيمن الولايات المتحدة على السياسة العالمية للعقدين التاليين، قبل أن يبدأ التاريخ يعيد نفسه من جديد.