هل اجتازت بيروت محنتها؟

26 ابريل 2017
+ الخط -



في بيروت‏..‏ لا تقل إنك جئت لترى الناس‏،‏ وإنما عش بينهم‏،‏ شاهد وراقب ما يحدث في الصباح والمساء‏،‏ وأيضاً في جوف الليل‏،‏ إنّها مدينة خرجت من رحم الحرب والدمار‏،‏ ولكنها أبقت على جمالها وسحرها‏،‏ ومع الجمال والسحر ظلّت بيروت امرأة جميلة لا تنام‏،‏ ولا تتذكر نهر الدم الذي فاض على ثوبها‏..‏ إنّه السرّ الذي لن تكتشفه إلاّ إذا جلست معها ذات ليلة، وهذا ما فعلناه‏.

‏لم تستغرق المسألة الزمنية، منذ هبوط الطائرة وحتى خروجنا إلى أبواب المطار الخارجية، سوى عدّة دقائق، حيث اتسم المطار بالدّقة والنظام، وسرعة إنهاء الإجراءات‏.‏

وفي الطريق، بدا واضحاً، أنّها الفنادق القديمة المشهورة، أعيد تجديدها وتعميرها، وهي المباني التي ترسمُ ملامح بيروت، وكأنها لوحات في معرض فنّي مفتوح‏.

اجتازت بيروت، إذاً، المحنة التي ألمّت بها طيلة عقد ونصف من الزمن، واستحقت عن جدارة لقب المدينة التي تأبى أن تزول، ورغم أن قسماً كبيراً من بيروت قد دمّر تماماً بفعل الحرب إلا أنَّ الغريب في الأمر، أنَّ هناك شارعين لم يتأثرا بهذا الدمار، وهما شارع البنوك، وشارع الحمرا‏،‏ اللذان لم تمسّهما رصاصة أو قذيفة، ربما لأن التجارة تشكل جزءاً من طبيعة البيروتيين الذين اكتشفوا، منذ القدم، أهمية موقع مدينتهم المرفئية كمجال التقاء بين الشرق والغرب.

أما الشارع الآخر الذي لم يتأثر بطلقات الرصاص، أو قذائف الهاون، فهو شارع الحمرا، والذي ينفرد بطابع اجتماعي خاص، ورمز إلى السهر والحياة، ويجمع بين المتناقضات الجدية‏‏ والطرافة‏،‏ الطبيعة والغرابة‏،‏ الرصانة والخفّة‏،‏ الالتزام والحرية‏،‏ الغنى والفقر‏،‏ النظام والفوضى،‏ الهدوء والاضطراب‏،‏ هذا الشارع يقع في قلب مدينة بيروت‏،‏ ويلتقي فيه الجميع‏،‏ رجل المال، والوزير السابق‏،‏ والوزير اللاحق‏،‏ والموظف، والعامل،‏ ونظيره المتقاعد، والصحافي الناجح وزميله الفاشل‏..‏ وشارع الحمرا الذي يتلألأ سابحاً في الأضواء، مازجاً ليله بنهاره.

وحينما تتجول في شارع الحمرا تجده مجتمعاً قائماً بذاته، وعالماً مستقلاً، وهذا ما جعل التساؤلات تدور في ذهني، كيف يعيش الناس في هذا الشارع؟‏ ولماذا لا تهدأ الحركة فيه؟‏‏ من شروق الشمس إلى غروبها‏،‏ وتستمر الحياة فيه بتلاحق الحلقات مع شلال دافق من الناس الذين لا يتعبون.

‏الغريب أنَّ الشارع يحفَلُ أيضاً بعددٍ وافر من المقاهي التي كانت تجذب المثقفين والفنانين والكتاب والشعراء إلى محلات تبيع "الشاورما"، بعد أن انقرضت إلى حد كبير المكتبات التي كانت تنتشر في الماضي على جانبيه‏.‏

وفي بيروت، يتجسّد مدى التراجع الكبير لدور النشر في حياة اللبنانيين، حيث انتفت الحاجة إلى المكاتب داخل المنزل لدى الأغلبية منهم‏،‏ وبالتالي، فهي، إن وجدت، يمكن اعتبارها ضمن الديكور العام للصالونات‏،‏ ومثل غيرها من التحف واللوحات التي تزيّن جدران المنزل وأروقته.

وفي سوق صبرا‏،‏ الذي يحوي كل شيء، وأي شيء يمكنك أن تجد فيه إسطوانة مفقودة لأم كلثوم‏،‏ كما يمكنك أن تجد فيه حذاءً فقدته يوماً على شاطئ البحر‏،‏ تجّار السوق يباهون بما يفعلون ولا يترددون بالمجاهرة بالمصدر غير القانوني لبضاعتهم‏،‏ حيث يقولون، إنهم يجنون أرباحاً جيدة، إذ يتقاضون ثمن الأغراض التي لم يشتروها في الأساس‏،‏ ولا تكلفهم ضرائب عليهم حين يفترشون الأرض والطريق لعرض المقتنيات المسروقة‏، وحينما سألت أحدهم عن المعروضات، قال: إنَّ كثيرين يعمدون إلى سرقة ما يبيعونه أو يتسولونه، والدليل على ذلك أنَّ جميع البضائع المعروضة تتألف من ثياب رثّة، وأحذية مستعملة وغيرها من البضائع المتنوعة التي لا تجد تناسقاً في ما بينها، وحينما تجوّلت في السوق وجدت الأطفال الصغار يهربون خوفاً من السؤال، باستثناء فتاة صغيرة أكدت لي أنّها تعيش في منطقة صبرا منذ أكثر من عشر سنوات‏،‏ وأن هذه السوق قديمة تألفت، منذ بدايتها، من عمّال ينتمون إلى دول عربية أتوا إلى لبنان قاصدين العمل، فما كان منهم إلاّ المكوث في منطقة صبرا وافتراش طرقاتها لعرض أنواع مختلفة من البضائع التي يجلبونها من بلدانهم.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.