ميزانيات ضخمة لـ"بنغازي عاصمة للثقافة الليبية لعام 2013" أُنفِقت على احتفاليات شكلية وأنشطة هشة ومشاريع صيانة؛ لم تكن جميعها، في الواقع، سوى بهرجة وصراخ وذر للرماد في العيون.
مقاهٍ قليلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة زُوّدت بمكتبة هي عبارة عن خزانة واحدة للكتب، لا يتجاوز طولها المترين وعرضها المتر، حُشيَت بكتب سيئة شكلاً ومضموناً، طُبع معظمها كيفما اتّفق. في البداية، ظننا أن هذه الكتب ستكون عرضة للنهب من الزبائن، لكن أحداً لم يمسّها باستثناء القليل منها، مثل الأعمال الشعرية الكاملة لمحمد الشلطامي الذي تظهر على غلافه وصفحاته آثار أصابع نظيفة.
المشاريع الثقافية التي دخلت في إعلان "بنغازي عاصمة للثقافة لعام 2013" رُصد لها مبلغ مالي من ميزانية الدولة قدره خمسة ملايين دينار ليبي. واستبشر المثقفون الليبيون آنذاك خيراً، ونشطت الأجواء في أروقة "قصر المنار"، حيث شُكِّلت اللجان وقُدّمت المشاريع الإبداعية لكثير من الفنانين، ووُقّعت العقود بعد دفع أصحابها الضرائب المستحقّة عليها لينهمكوا في العمل على حسابهم الخاص واثقين من أنّ وزارة الثقافة ستمنحهم قيمة العقود وتفي بالتزاماتها تجاههم.
السينمائي الليبي محمد مخلوف، المقيم في بريطانيا منذ عقود، بدا متحمّساً جدّاً، ومرحّباً بطلب التكليف الذي أتاه من موظفة كبيرة في وزارة الثقافة من أجل الإشراف على قبول وتقييم عدة أفلام سينمائية لمخرجين ليبيين غالبيتهم من الشباب. لم يكن يدري أن الوزارة ستخذله، وتسطو على جهده الذي دام أكثر من ثمانية أشهر ضمن البرنامج المذكور.
لم يكن مخلوف المثقّف الوحيد الذي خاب أمله بعد حماسة الأيام الأولى من إعلان الاحتفالية، فكثيرون مثله ذاقوا هذه الخيبة، مثل بعض أعضاء اللجان المشكّلة الذين استقالوا بعد مدّة قصيرة، علماً أنّ هناك بينهم من شرب المقلب كله وما زال يواصل عمله حتى الآن.
ثمانون في المئة من ميزانية المشروع لم تصل إلى مكتب بنغازي كي ينظّم الاحتفالية كما يجب، فبقيت "بنغازي عاصمة ثقافية لعام 2013" حبراً على ورق. تفسّر عضو اللجنة العليا للاحتفالية، الشاعرة رحاب شنيب هذا الأمر بالمركزية المقيتة: "نقود الاحتفالية بقيت لدى الوزارة في طرابلس، والوزير لم يفرج لنا عن المبلغ كي نمنح المبدعين حقوقهم ونفي بالالتزامات".
ويتساءل كاتب قدّم مشروعاً ضمن الاحتفالية - طلب عدم ذكر اسمه: "أين باقي المبلغ المخصص للاحتفالية، لا أحد يعلم، ولا محكمة الآن لتقديم شكوى، وكل وزير لديه ميليشيا تحميه. يأكلون حقك أمام عينيك".
الصحافي في هيئة دعم وتشجيع الصحافة، وائل العشيبي، الذي واكب الاحتفالية منذ بدايتها، عدّد الأسباب التي تقف خلف فشلها وفي مقدمتها عدم وجود بنية ثقافية في بنغازي، حيث لا مراكز ثقافية ولا مسارح ولا قاعات عرض فنية، كما أن الاحتفالية "لم تسبقها دراسة علمية لتحديد تكلفتها، فخمسة ملايين مبلغ قليل نسبيّاً بما يمكن تنظيمه من أنشطة مختلفة. لقد كانت الأفكار بالية ومكررة، فلم نشاهد جديداً، علماً أنه كان من الضروري الاستعانة بخبرات وتجارب الاخرين في تنظيم فعاليات شبيهة".
ويضيف العشيبي: "لم تكن اللجنة المنظمة في مستوى الحدث، إذ اقتصرت غالبية الأنشطة على الفعاليات الأدبية، وغابت باقي الأنشطة الثقافية. الوجوه القديمة نفسها هي التي نظّمت الأنشطة، فحرمت المواهب الصاعدة من المشاركة والظهور. كما يرى العشيبي أن الاحتفالية كانت نخبوية مغلقة "غابت عنها الفعاليات التي تُقحم الجمهور العادي، مثل العروض الفنية في الشوارع والأماكن المفتوحة".
طرحنا على عضو لجنة الاحتفالية ورئيسة تحرير مجلة "المرأة"، الكاتبة انتصار بوراوي، بعض الأسئلة للوقوف على تفاصيل القضية، فقالت: "ليست لديّ معلومات كافية، لأني انسحبت مع مجموعة من الزملاء من الفريق المنظِّم للاحتفالية بعد نحو شهر ونصف من التجهيز والتحضير. لقد اعتقدنا أنّ البرنامج جدّي وسيكون بمستوى مدينة بنغازي وما تتميز به من تاريخ ثقافي وفني منح ليبيا أفضل الفنانين والكتاب والرياضين. وبعد أن تم وضع تصوّر عام للبرنامج بالاتفاق بين مختلف اللجان، كان الرد من الوزير بأنّ الميزانية محددة وصغيرة ولن تُسيّل للمشروع مباشرةً، بل من خلال مراقب مالي لا بدّ من قصده في طرابلس عند كل نشاط".
وتضيف بوراوي: "رفض الوزير فتح اعتماد حساب خاص للمشروع، ما عطّل العمل ودفع أعضاء اللجنة العُليا إلى رفْض قراره والانسحاب تاركين المشروع لمكتب بنغازي والوزير. هذا المكتب هو الذي أشرف بعد شهر آذار/ مارس على كل نشاطات البرنامج، منذ انطلاق الاحتفالية، كما أشرف على العقود التي أجريت مع الفنانيين الشباب".
وتوضّح بوراوي التي حاربت الفساد الثقافي سابقاً في مقالاتها: "دعني أقول لك إن هناك قضية مرفوعة الآن لدى المحكمة ضدّ الوزير من قبل الفنانين والمبدعين الشباب؛ لأنهم أنتجوا أعمالهم على حسابهم الخاص، وانتظروا أن يتحصلوا على استحقاقهم المالي من الوزارة، بدون نتيجة".
أما مدير مكتب الثقافة، القاص محمد المسلاتي، فقال لـ"العربي الجديد": "لقد خذلنا الوزير ولم يمنح المكتب باقي الأموال المرصودة لدفع استحقاقات الفنانين الشباب الذين تعاقدوا مع الوزارة. وقد عقدنا مؤتمراً صحافياً بمشاركة نائب مدير المكتب وعدد من أعضاء اللجنة، وأعلنّا ذلك على الملأ، آملين حلّ الإشكال قريباً. لقد حاولنا أن نعمل شيئاً جيداً يليق بهذه المدينة العريقة، لكن العراقيل التي واجهتنا كانت أكبر منا. لا تسأل عن أي نجاحات في بلد يعيش مثل ظروفنا الحالية".