هكذا أصبحتُ بلا ذاكرة!

24 سبتمبر 2015
الوطنُ بالنسبة لي أعمق من فكرة المكان (فرانس برس)
+ الخط -
"عندما سمعتُ خبر تحطيم تمثال حافظ الأسد في السويداء، قلت لنفسي: إن تحرّرت السويداء، سأحجز على أوّل طائرة إلى الأردن، وسأعود إلى هناك".


هذا ما قاله لي الشاعر السوري، تمّام هنيدي، في مكالمة هاتفيّة مليئةٍ بالمشاعر المتخبّطة والمختلطة، ومليئة أيضاً بحبّ كبير، واندفاعٍ ثوريٍّ ترجمه عندما قال: "إذا تحرّرت، لا يجب أن تستلم المؤسسة الدينية كلّ شيء، لدينا مهمّة كبيرة". رغم كلّ شيء ما زالت مشاعري متأرجحة، خاصّة تلك التي تتعلّق بالأمل، ربّما تختلف هذه القضيّة من شخص إلى آخر، لكنّني في لحظة سبقت هذا الحوار كنت أرى أنّ لا أمل الآن في فعل أيّ شيء، لكن اندفاع تمّام المقيم في السويد منذ ثلاث سنوات، غيّر المعادلة في داخلي.

هل الأمر متعلّق بثوريّة أحدنا ووطنيّته؟ شجاعته وقوّته؟ أم بشيء آخر لا أعرف اسمه بعد؟ ربّما عليّ الاعتراف بالشرخ الكبير بيني وبين مجتمعٍ نشأت فيه، عادات وتقاليد وأفكار ودين لا أنتمي إليها ولم أكن منتمياً يوماً، نعم أريد أن أبني سورية، وأن تكون وطناً لكلّ السوريين، دولةً ديمقراطيّةً تعدديّةً مدنيّةً تحترم حقوق الإنسان، وسأسعى بكل ما أستطيع لتحقيق ذلك، وستبقى قضيّتي التي أحارب من أجلها بطريقتي، لكن بصدق.. لا أعرف إن كنت سأعود لأعيش هناك ثانيةً!

الوطنُ بالنسبة لي أعمق من فكرة المكان والأرض والعلم والحدود والهويّة، هو ببساطة.. الناس والذكريات، لا أكثر ولا أقل، الناس الذين أتحدّث عنهم، قضى كثيرٌ منهم تحت التعذيب، قنصاً، حرقاً، ذبحاً، جوعاً، وهاجر كثير منهم، وظلّ كثيرٌ منهم في المعتقلات لدى النظام ولدى غيره، أمّا الذكريات، فقد تراكمت فوقها .. صور الجثث ورائحة الدم، أصواتُ المعتقلين، عويل الفقد، بكاء الأطفال، صور لأجسادٍ خسرت أجسادها، كلّ أماكن سورية اليوم هي أماكن لإعادة قتلي مرّات ومرّات.

منذ عامٍ تقريباً، أعاني من مشاكلَ في الذاكرة، ذاكرة الأسماء والأحداث والأماكن، أصدقاء يخبرونني أنّنا التقينا سابقاً في سورية ولا أستطيع التذكّر، يؤكّدون ذلك بالحديث الذي دار بيننا، ولا جدوى! صديقي (بلند) الذي كان معي في المعتقل أخبرني أنني قدت سيارته من البرامكة إلى المزّة، وإلى الآن لم أستطع استعادة المشهد، أعاني من مشكلة حقيقية في الخريطة، هناك قطعٌ تام فيها، كأنّ فأراً أكلها من رأسي، أخرج من بيتي في مخيّم اليرموك، أقطع المخيّم، الزاهرة، الميدان، المجتهد، البرامكة، ثم تصبح الخريطة سوداء تماماً، أرى يوميّاً على مواقع التواصل صور ضحايا قُتلوا، أعرف وجوههم تماماً، أبحث بالأسماء وأحاول أن أعرف متى قابلتهم ولا جدوى إلّا نادراً.

منذ فترة وجدتُ صورةً لشخص أعرفه، نشرها ابنه وهو يترحّم عليه، لم أتذكّر الاسم، لكنني تذكّرتُ الوجه، هذا الوجه عاش معي في طفولتي في المدرسة، كان (أبو فايز) يعمل في مدرسة الجرمق التي درست فيها، وكان جزءاً من صوري الأولى عن العالم، حين تذكّرته .. كان قد مات!

حصلت (هند) على الإقامة في ألمانيا، كانت أوّل معتقلة في درعا في أوّل أيام الثورة، وتعرّضت للاعتقال عدّة مرّات، وما زالت تقول لي: "راجعة .. اليوم، بكرا، راجعة، في شغل كتير"!

(جهاد) الذي حُرّر بصفقة تبادل وأعادوه للحياة بصعقة كهربائية بعد أن مات من التعذيب، زار المدن الأوروبية جميعها وهو يحاول أن يحصل على دعم للدفاع المدني السوري، ولم يقدم على اللجوء في إحداها مع أنّ الأمر كان متاحاً بسهولة!

(إيزيس) تركت بيروت وعادت. كثيرون مثل تمّام، هند، جهاد، وإيزيس، وربّما سأكون مثلهم يوماً وأعود، وربّما لا، إلّا أنّني الآن على الأقل، أشعر أمام نفسي وأمام أصدقائي هؤلاء بالخجل، وأقول ما أصغرني!

ما أصغرني! بذاكرة وبلا ذاكرة!

(سورية)
المساهمون