08 نوفمبر 2024
هذا الجدل حول صاروخي حزب الله
لعل انقسام الرأي العام العربي، كما عكست جانبا من ذلك نقاشات وسائل التواصل الاجتماعي، حول صاروخي حزب الله وتدمير آلية عسكرية إسرائيلية في منطقةٍ قرب حدود لبنان الجنوبية الأسبوع الماضي، يختزل حقيقة المكانة المُتَدَنِّيَةِ التي انتهى إليها الحزب في الوعي العربي، وذلك بعد أن كان قد بلغ مكانة مرموقة، خصوصا خلال تصدّيه للعدوان الإسرائيلي على لبنان صيف عام 2006. لم تتغيّر الجماهير العربية، ولم تتبدّل بوصلتها، ولكن الذي تغير هو حزب الله، وهو من انحرفت بوصلته، فكان أن انقسم الناس فيه وحوله، بأغلبية متشكّكة فيه، وَمُدينَة له، حتى وهو يمارس ما يبدو أنها مقاومةً لإسرائيل، وأقلية منهم ترى أنه ينبغي الفصل بين جرائمه في حق السوريين وبين شعارات تصدّيه لإسرائيل.
يمثل المشهد السابق مفارقةً لافتة، إذ إننا نتحدّث هنا عن نوع من الجماهير لم يتلطخ وعيها في هذا الزمن العربي الآسن، ولا تزال فلسطين تحتل مكانة عالية في سلم أولوياتها، في حين لا تزال إسرائيل تمثل العدو المركزي في مقارباتها والتناقض الأساسي بالنسبة لها. ولكن سياسات الحزب، ومن ورائه إيران، وجرائمهما الطائفية، على مدى السنوات الثماني والنصف الماضية في سورية، ودعم نظام بشار الأسد الدموي، قلب كل المعادلات رأسا على عقب. وإذا كانت الجماهير نفسها فَصَلَت من قبل في الحكم بين جرائم إيران ومليشياتها الطائفية في العراق بعد غزوه واحتلاله من التحالف الأميركي - البريطاني، عام 2003، وبين حزب الله، وهو الذي لم يخفِ يوما ولاءه لإيران، فإن تورّطه المباشر في سفك الدم السوري ألغى المنطقة الفاصلة بين الأمرين. لم تكن تهمة الطائفية زعما ساقته غالبية الشعب السوري، ومن ورائهم عرب كثيرون، بل هو معطى برّر به الحزب وزعيمه، حسن نصر الله، التدخل في سورية. أم هل، يا ترى، نسينا ذريعة حماية المقامات الشيعية المقدّسة، كمقامي السيدتين زينب ورقية في دمشق، والشعارات الطائفية المشحونة من مثل "لا تسبى زينب مرتين"!
حتى مسألة التشكيك في مقاومة حزب الله إسرائيل ليس منبعَها تآمر أو تحيز ضده من الغالبية، بقدر ما أنها معطيات ساهم الحزب نفسه في صناعتها وترسيخها. ألم يقل نصر الله، نفسه، من
قبل، حرفيا: إن "طريق القدس يمر بالقلمون والزبداني وحمص وحلب والسويداء والحسكة"؟ أو لم يسقط معظم، إن لم يكن كل، قادة الحزب ومقاتليه في السنوات الثماني والنصف الماضية قتلى وجرحى بعمليات إسرائيلية على الأرض السورية، لا على أرض لبنان ولا على أرض فلسطين المحتلة؟ نصر الله نفسه هو من سبق له القول إن ولاءه وولاء حزبه الأول والأخير لنظام "الولي الفقيه" في إيران، بمعنى أن من يتحكّم بمعادلة مقاومته وبوصلة بندقيته هي الأجندة الإيرانية. ولا أظن أن منصفا اليوم يشكّك بوفاء الحزب لولائه المعلن، حيث إن بندقيته مؤجرة في اليمن والعراق، فضلا عن سورية طبعا.
وعلى الرغم من ذلك كله، لا يختزل ما سبق كل تفاصيل المشهد، فحزب الله لا يزال يمثل حالة من المقاومة، وإنْ ضلّت طريقها، أمام إسرائيل في المنطقة، وليس الأمر تمثيلية، كما يحلو لبعضهم أن يقول، بناء على حجم الرد المراعي لحسابات الردع الاستراتيجي (وليس العسكري البحت) وعدم الانجرار لمعركةٍ مفتوحةٍ لا يريدها الطرفان. ذلك حكم متحيّز، فمراعاة الحسابات ليس حكرا على حزب الله، بل هي جزءٌ من لعبة الحرب، باردةً كانت أم ساخنة، وحتى المقاومة الفلسطينية تمارسها. وبالتالي، يغدو الحديث عن قنوات خلفية بين الحزب وإسرائيل لتنسيق مستوى الرد وحجمه لحفظ ماء وجه الطرفين أمرا مفهوما في ميزان السياسة والحرب، فحزب الله متورّط في سورية والغ في دماء شعبها، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يخوض انتخابات مصيرية منتصف شهر سبتمبر/ أيلول الجاري.
عطفا على ما سبق، ثمَّة فارق بين انحراف بندقية حزب الله وتقديم الطائفي والتكتيكي على الاستراتيجي، وبين أن إسرائيل لم تعد عدوه المركزي، على الأقل مرحليا. كان الأوْلى بمن يزعمون أن مسألة العداء بين الطرفين مجرد تمثيلية وَوَهْمٌ أن يقولوا إن الحزب أصبح شبه مكبل اليدين أمام إسرائيل جرّاء تورّطه في جبهة ضد الشعب السوري وعلى أرضه. ولولا أن إسرائيل هاجمت الضاحية الجنوبية في بيروت بطائرتين مسيّرتين في الخامس والعشرين من الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، لما كان الحزب المُحْرَجُ جرّاء ذلك ردَّ أصلا على اعتداءاتها الكثيرة ضد عناصره في سورية، بما فيها عملية قتل عنصرين من مقاتليه قرب دمشق قبل ذلك بيوم، وحملت عملية الردِّ اسميهما من باب حفظ ما تبقى من ماء الوجه. لقد قتلت إسرائيل مئات من عناصر حزب الله والحرس الثوري الإيراني على الأراضي السورية، ولم يردّوا من قبل، ذلك أنهم مشغولون بسحق الشعب السوري، ولا يريدون فتح جبهة أخرى مع إسرائيل تشوّش على ذلك الهدف.
باختصار، لم تكن الشعوب العربية لتنقسم حول مقاومة حزب الله، لولا أنه استفز كرامتها
واستباح دماءها. لقد أثبت حزب الله أن الطائفة في تفكيره مقدّمة على لبنان والأمتين، العربية والإسلامية، وبالتالي من حق كثيرين أن يُشَكِكوا إن كانت إسرائيل ستبقى عدوّه المركزي إن توصلت إيران إلى نوع من التسوية معها مستقبلا. في المقابل، لا يشرّف الشعوب العربية أن تتحدّث بلسانها الإمارات والبحرين اللتان أيدتا العدوان الإسرائيلي، في حين دانتا ردَّ حزب الله. وختاما، كل طهر فلسطين لا يمكن له أن يغسل دنس حزب الله وإيران وعارهما في سورية. نحن لا نفرّق بين دم ودم آخر بريء، ولا نعلي أحدَهما على الآخر، ومن أضعف سورية أو اليمن أو العراق أو مصر أو السودان أو ليبيا.. إلخ، ومن أعاد بعث ثارات الطائفية من أعماق مجهول الماضي، فقد خذل فلسطين وتآمر عليها. ولكن لا ينبغي لبوصلتنا نحن كذلك أن تنحرف، فنؤيد إسرائيل من حيث نريد إدانة حزب الله وإيران.
حتى مسألة التشكيك في مقاومة حزب الله إسرائيل ليس منبعَها تآمر أو تحيز ضده من الغالبية، بقدر ما أنها معطيات ساهم الحزب نفسه في صناعتها وترسيخها. ألم يقل نصر الله، نفسه، من
وعلى الرغم من ذلك كله، لا يختزل ما سبق كل تفاصيل المشهد، فحزب الله لا يزال يمثل حالة من المقاومة، وإنْ ضلّت طريقها، أمام إسرائيل في المنطقة، وليس الأمر تمثيلية، كما يحلو لبعضهم أن يقول، بناء على حجم الرد المراعي لحسابات الردع الاستراتيجي (وليس العسكري البحت) وعدم الانجرار لمعركةٍ مفتوحةٍ لا يريدها الطرفان. ذلك حكم متحيّز، فمراعاة الحسابات ليس حكرا على حزب الله، بل هي جزءٌ من لعبة الحرب، باردةً كانت أم ساخنة، وحتى المقاومة الفلسطينية تمارسها. وبالتالي، يغدو الحديث عن قنوات خلفية بين الحزب وإسرائيل لتنسيق مستوى الرد وحجمه لحفظ ماء وجه الطرفين أمرا مفهوما في ميزان السياسة والحرب، فحزب الله متورّط في سورية والغ في دماء شعبها، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يخوض انتخابات مصيرية منتصف شهر سبتمبر/ أيلول الجاري.
عطفا على ما سبق، ثمَّة فارق بين انحراف بندقية حزب الله وتقديم الطائفي والتكتيكي على الاستراتيجي، وبين أن إسرائيل لم تعد عدوه المركزي، على الأقل مرحليا. كان الأوْلى بمن يزعمون أن مسألة العداء بين الطرفين مجرد تمثيلية وَوَهْمٌ أن يقولوا إن الحزب أصبح شبه مكبل اليدين أمام إسرائيل جرّاء تورّطه في جبهة ضد الشعب السوري وعلى أرضه. ولولا أن إسرائيل هاجمت الضاحية الجنوبية في بيروت بطائرتين مسيّرتين في الخامس والعشرين من الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، لما كان الحزب المُحْرَجُ جرّاء ذلك ردَّ أصلا على اعتداءاتها الكثيرة ضد عناصره في سورية، بما فيها عملية قتل عنصرين من مقاتليه قرب دمشق قبل ذلك بيوم، وحملت عملية الردِّ اسميهما من باب حفظ ما تبقى من ماء الوجه. لقد قتلت إسرائيل مئات من عناصر حزب الله والحرس الثوري الإيراني على الأراضي السورية، ولم يردّوا من قبل، ذلك أنهم مشغولون بسحق الشعب السوري، ولا يريدون فتح جبهة أخرى مع إسرائيل تشوّش على ذلك الهدف.
باختصار، لم تكن الشعوب العربية لتنقسم حول مقاومة حزب الله، لولا أنه استفز كرامتها