ولكن من هو محمد الخطيب*؟ نعرف فقط أنه شاب عمره عشرون عاماً، ومن الخليل. وأراد الذهاب إلى البحر. بالتالي يمكننا الاعتقاد بأنه فكّر مطولاً حول كيفية الوصول إلى هناك. ويمكننا أن نتخيّل توفّر إمكانيتين في الظروف الحالية في ما يتعلق بالبحر الذي يمكن لمحمد الخطيب زيارته.
الإمكانية الأولى هي بحر غزّة. ووفق ما يشير الاسم حرفياً، يمكن وصول بحر غزة هذه الأيام من قبل من هم موجودون هناك فقط. فكيف يمكن لمحمد الخطيب أن يصبح موجوداً هناك؟ أولاً، عليه التوجّه إلى ما يُسمّى "جسر ألنبي" كي يتمكّن من عبور الحدود، التي يسيطر عليها الإسرائيليون، نحو الأردن، هو وأصدقاؤه، الذين سيمنع واحد من بينهم من عبور الجسر باتجاه الأردن من قبل المخابرات الإسرائيلية،
ومن هناك يمكنهم التوجّه إلى مطار عمّان، ومن ثمّ إلى مطار القاهرة. لكن قبل ذلك، على محمد الخطيب الحصول على تأشيرة لدخول مصر، وهو أمر شاق جداً. مع ذلك تجدر المحاولة، وهو ما سيفعله وبالفعل سيحصل عليها، هو وأصدقاؤه، ذلك عدا واحد من بينهم والذي يندرج اسمه على قائمة المخابرات المصرية.
من القاهرة سيتجّهون إلى العريش، ذلك عدا صديق واحد والذي سيتم إيقافه في مطار القاهرة بالرغم من وجود تأشيرة بحوزته، إلا أنه لم يتصرّف بطريقة وديّة مع قوى الأمن المصرية. عندها، على محمد الخطيب التوجّه إلى رفح، حيث سيجد المعبر مغلقاً، ويتم أمره بالعودة من حيث أتى.
لكنه قد يعثر على أحدهم والذي سيساعده في دخول غزّة عبر الأنفاق، وهو أمر بات شديدة الصعوبة في الآونة الأخيرة، مع إعلان القوات المصرية حربها المدعومة من قبل الولايات المتحدة و"إسرائيل" ضدّ الأنفاق التي تقود إلى غزّة. مع ذلك، وبعد عدة أيام من السفر، سيصل محمد الخطيب، من دون أيٍ من أصدقائه إلى بحر غزّة، في حوالى الساعة الخامسة عصراً من 1 أيلول 2016، وسيكون أمامه ساعة كاملة قبل أن تحلّ العتمة ومعها القصف المدفعي الإسرائيلي الثقيل.
لكن تلك الساعة مع البحر هي ما يجدر أخذه بالحسبان. ويمكن حسابها كستّين دقيقة أو ثلاثة آلاف وستمائة ثانية، وهو وقت لانهائي. من أمكنه من قبل أن يحسب حتى الرقم 3600، عدا أمواج البحر؟
الإمكانية الثانية هي بحر يافا. ويمكننا أن نتخيّل في الظروف الحالية، توفّر إمكانيتين في ما يتعلّق بمقدرة الوصول إلى هناك.
الإمكانية الأولى هي أن والد محمد الخطيب، أو عمه أو ابن خالته، أو صديق مقرّب لواحد من هؤلاء، أو أحد معارفه، لديه "خط مفتوح" مع أحد أصحاب المناصب الرفيعة في مكاتب السلطة الوطنية الفلسطينية، أو مع أحد العملاء الذين يحتلّون أدنى المناصب ويزوِّدون السلطات الإسرائيلية ببعض المعلومات.
هذا الخط، سيوفّر لمحمد الخطيب تصريحاً لدخول المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، ذلك عدا منطقة "د"، من الساعة السابعة صباحاً وحتى الساعة السابعة مساءً، متيحاً أمامه فرصة زيارة البحر. ماذا عن أصدقائه؟
حسناً، هم أصدقاؤه وسيحصلون على تصريح أيضاً، سوى واحد من بينهم والذي يندرج اسمه على قائمة المخابرات الفلسطينية. صباح ذلك اليوم، الموافق 1 أيلول 2016، سيباشرون رحلتهم معاً مبكراً، ليكونوا في مقدمِّة دور المنتظرين على حاجز بيت لحم. وربما سيتمّ تأخيرهم قليلاً، ومنع أحدهم من عبور الحاجز بالرغم من حيازته "تصريحاً"، ولغير سبب واضح.
لكن في حوالى الساعة الخامسة عصراً، بعد إيقافهم هنا، وتفتيشهم هناك، واعتقال أحدهم هنا، وآخر هناك، سيصل محمد الخطيب بحر يافا، وهو اسم غير حرفي تماماً، بل مجازيّ، فيافا تقع على بعد الكثير من الكيلومترات. وسيكون أمامه ساعة كاملة، تاركاً ساعة أخرى لطريق العودة قبل أن تنتهي صلاحية تصريحه.
لكن تلك الساعة مع البحر هي ما يجدر أخذه بالحسبان. ويمكن حسابها كستّين دقيقة أو ثلاثة آلاف وستمائة ثانية، وهو وقت لانهائي. من أمكنه من قبل أن يحسب حتى الرقم 3600، عدا أمواج البحر؟
الإمكانية الثانية هي أن والد محمد الخطيب ميّت، وكذلك عمه وابن خالته، وصديقهم المقرّب، وأحد معارفه، ممن قد يكون لديهم "خط مفتوح" مع أحد أصحاب المناصب الرفيعة في مكاتب السلطة الوطنية الفلسطينية، أو مع أحد العملاء الذين يحتلّون أدنى المناصب ويزوِّدون السلطات الإسرائيلية ببعض المعلومات، والذين ماتوا هم أيضاً؛ لكن ليس ابن الجيران، الذي لم يحتج لأي من هذه "الخطوط" للوصول إلى "الداخل"، حيث يعمل من دون تصريح، ويعرف كذلك كيف يمكن العبور إلى هناك من دون تصريح. وهكذا، سيقضي محمد الخطيب ليلة بطولها مع ابن الجيران هذا ليتعلّم الطرق "غير القانونية"، التي ستمكّنه من بلوغ البحر.
ويمكننا أن نتخيّل في الظروف الحالية، توفر إمكانيتين في ما يتعلّق بطرق التهريب هذه. الإمكانية الأولى هي أن يسافر في سيارة ذات لوحة رقمية صفراء. ولمحمد الخطيب صديق لديه مثل هذه السيارة، ورغبة مماثلة في الذهاب إلى البحر.
وهكذا سينطلق محمد الخطيب، بصحبة أصدقائه، عدا واحد من بينهم لم يتبقّ متسع في السيارة له، ذات صباح مبكر، من الخليل إلى طريق وادي النار، إلى أن يصلوا بيت جالا، عدا واحد من بينهم والذي يشعر بالدوران فيبدأ بالغثيان جرّاء كثرة الالتواءات والانحناءات في طريق وادي النار.
وبعد اجتيازهم بيت جالا، سيسحبون من حقائبهم نظاراتهم الشمسيّة ويضعونها على أعينهم ثم قبعاتهم الصغيرة المشابهة لتلك التي يرتديها المستوطنون، ويثبّتونها فوق رؤوسهم، ثم سيتجّهون نحو حاجز النفق، في ساعة الزحمة القصوى، مع توجّه مستوطني الجنوب إلى أماكن عملهم في القدس.
ولأن الجنود لا يرغبون في إزعاج المستوطنين، أو تأخيرهم عن عملهم، يدعون السيارات، من بينها سيارتهم، تعبر الحاجز من دون إيقافها وفحص هويات ركّابها. إلا أنه في منتصف الطريق باتجاه البحر، ستسخن السيارة، وبعد ساعتين من محاولات تبريدها من دون جدوى، سيبقى صديق وآخر مع السيارة، بينما سيستقل محمد الخطيب الحافلة تلو الأخرى صوب البحر. وسيصله محمد الخطيب في حوالى الساعة الخامسة عصراً، من 1 أيلول 2016، وسيكون أمامه ساعة كاملة قبل أن يضطر لأن يستقل الحافلات ثانية عائداً إلى الخليل خلال فترة الزحمة أيضاً، حيث ستكون فرصة عدم ملاحظته أكبر.
لكن تلك الساعة مع البحر هي ما يجدر أخذه بالحسبان. ويمكن حسابها كستّين دقيقة أو ثلاثة آلاف وستمائة ثانية، وهو وقت لانهائي. من أمكنه من قبل أن يحسب حتى الرقم 3600، عدا أمواج البحر؟
الإمكانية الثانية هي ألا يجد محمد الخطيب في كل منطقة الخليل صديقاً له، لديه سيارة لوحتها الرقمية صفراء. وهكذا، سيتوجب عليه وعلى أصدقائه سلوك طريق التهريب الثانية للوصول إلى البحر، والتي تتطلّب السير لفترة طويلة على الأقدام.
مع ذلك، يجهّز محمد الخطيب نفسه، للانطلاق برفقة أصدقائه، قبل حلول الفجر. عليهم هذه المرّة التوجّه جنوباً، وليس شمالاً، نحو منطقة الرماضين. هناك، بين التلال الجرداء، يعبر مسار الجدار، والذي لا يزال العمل على إتمامه في طوره، كما وأن بعض أجزائه تتكوّن من الأسلاك الشائكة لا غير.
سينزل محمد الخطيب وأصدقاؤه من السيارة المسروقة التي أقلّتهم إلى هناك، وسيهرعون باتجاه سياج الشِيك، حيث سيصلونه عدا واحد من بينهم، والذي فقد فردة حذاء خلال جريهم وسيعود أدراجه للبحث عنها. ثم حين سيقفزون عن السياج، سيتمزّق بنطال صديق آخر من أسفل فخذه وحتى مؤخرته، وسيتدفّق الدم على طول ساقه، ويتخلّف عنهم. كما لا يمكن لمحمد الخطيب أن يتأخّر أكثر، وإلا سيلقون القبض عليهم، فيواصل الجري حتى يصل حافلة بيضاء صغيرة سائقها من رهط، تنتظره بأبواب مفتوحة على مصارعها. وما أن يدخلها حتى يغادر السائق المكان على أقصى درجة من السرعة.
ولكن الثمن باهظ، ويملك محمد الخطيب منه ما يكفي للثلث الأول من الطريق فقط. بلا نقود بحوزته، سيستقل محمد الخطيب مجاناً مركبة تلو الأخرى حتى يصل البحر حوالى الساعة الخامسة عصراً، من 1 أيلول 2016، وسيكون أمامه ساعة قبل أن يضطر للبحث عن توصيلات مجانية مشابهة حتى الخليل.
لكن تلك الساعة مع البحر هي ما يجدر أخذه بالحسبان. ويمكن حسابها كستين دقيقة أو ثلاثة آلاف وستمائة ثانية، وهو وقت لانهائي. من أمكنه من قبل أن يحسب حتى الرقم 3600، عدا أمواج البحر؟
ها هو محمد الخطيب يقف أمام البحر، حيث سيمكنه أخيراً أن يصيح عالياً: “هذا البحر لي". ويمكننا أن نتخيّل في الظروف الحالية، توفر إمكانيتين على سبيل الرد من قبل البحر. الإمكانية الأولى هي أن البحر، إثر سماعه صيحات محمد الخطيب (بالعربية بالطبع)، ولمحه في يديه المرفوعتين فيما هو يهرع نحوه ما يشبه السكين، سيضطرب.
يعتقد البحر بأن محمد الخطيب ينوي طعنه. الأخبار حول شباب من الخليل تم الاشتباه بتخطيطهم لعمليات طعن، هي أكثر بكثير مما يمكن للبحر أن يكون هادئاً إزاءها. سيتصل البحر بالشرطة ليعلمهم بهذا الصياح وهذه الهرولة. لكن قبل وصول الشرطة، والوقت يهرول، وكذلك محمد الخطيب، سيقفز البحر إليه لتحييده، دافعاً إياه فوق الرمل، ثم سيسحبه إلى أعماقه حتى يحتوى خطره. ولكن للأسف، سيموت محمد الخطيب أثناء ذلك.
الإمكانية الثانية هي أن البحر، إثر سماعه صيحات محمد الخطيب (بالعربية بالطبع)، سيفتح قلبه، فهذا بحر يافا ولم يسمع العربية في هذه النقطة منذ زمن بعيد، وربما سيلمح في يدي محمد الخطيب المرفوعتين فيما هو يركض نحوه، ما يشبه العناق الذي ينوي أن يطوقه به.
ومثل أذن عاشق ومقلتيه، لا يخطئ البحر ما الذي يعنيه معشوقه، أو يفهم منها العكس. إنما كما في الحب، حين يعلن أحدهم أن الثاني له، لا بد للثاني أن يعلن الأمر ذاته.
حين يسمع البحر صيحات محمد الخطيب "هذا البحر لي"، يرد منادياً، "أنت لي". ولا يدع البحر محمد الخطيب يغادره ثانية.
____________________
*هامش: في أيلول/ سبتمبر 2016، أُعلن عن غرق الشاب الفلسطيني محمد نضال نجيب الخطيب (20 عاماً) في بحر يافا. كان الشاب القادم من الخليل في رحلة مع صديقيه، اختفى سبع ساعات قبل أن يتمّ العثور على جثته، بعد أن شوهد آخر مرة يسبح في البحر قبل أن تأتي موجة عالية وتتقدّم نحو الشاطئ. وبالكاد تمّ إنقاذ شابين آخرين أوشكا على الغرق أيضاً وبعد إخراجهما من المياه انتبه أفراد الرحلة إلى غياب الخطيب.