هدى قساطلي.. حكمة سائقي الشاحنات

09 ابريل 2014
من المعرض
+ الخط -
نادراً ما يستبشر أحد منّا إذا صادف مركبة نقل كبيرة تتهادى أمام سيارته في زحمة شارع يكاد يضيق أصلاً بأفواج العربات الأخرى المتكدسة أرتالاً وراء بعضها. هيكل حديدي ضخم يبدو للوهلة الأولى مُصمتاً وقصيّاً عن أي تفاعل ممكن عند التقاطعات، اللهم فيما عدا بوق "زموره" العالي، وحجبه إشارات المرور في حال لم يسعفك الحظ في تجاوزه و"علقت" وراءه.

كلّ ذلك قبل أن يبدأ سائق "الكميون" نفسه في الحديث إليك دون مقدمات: "الصبر مفتاح الفرج". "ماشية والرب راعيها". "ما بيهزّ العرش غير النسوان والقرش". "لا يخيفني الموت لكن تقتلني دمعة أمي". "عينك يا بارد". "الاستقامة عين الكرامة". "الأصيلة بحالها، بتعرف خيالها".

ألوان حيّة حمراء وزرقاء وصفراء تطفر فجأة في عينيك الباهتتين من رماديّ المدينة حولك، فيما تجرّك اللعبة الطارئة إلى البحث عن "حوارات" إضافية قد يكون صاحب الشاحنة المجهول نثرها في "حنايا" ديناصوره المعدني هنا أو هناك. ولن يخيب أملك: "محروسة بعين القدرة"، "أمّورة ع العين"، "موفقة"، "خلي عينك ع الأحمر". وأخيراً: "أبو جابر للنقل...657\03".

إذا كان يمكن لهذا أن يشغلك بضع دقائق في زحمة مرور "بيروتيّة" خانقة؛ فإنّه أمر قررت الباحثة في أصول السلالات والتقاليد البشرية، اللبنانية هدى قساطلي، أن تفرّغ له بعضاً من وقتها (قرابة 20 عاماً) لجمعه وتوثيقه في كتاب "رسوم الشاحنات في لبنان اليوم"، ومن ثمّ لعرضه في "غاليري أليس مغبغب" تحت عنوان "رحلة في الكلمات المكتوبة على الشاحنات".

بالنسبة إلى قساطلي، الكتاب والمعرض شيء واحد بحسب ما تقول لـ"العربي الجديد"، وهذا الشيء في النهاية ليس سوى صورة المجتمع اللبناني نفسه: "كل شيء مكتوب على "الكميون": الحب، والعلاقات الاجتماعية، والصداقة، والمرأة، والله".

لا تؤثر خطوط الصدأ البني المتعرجة قرب رسم العين التي يخترقها سهم العناية الإلهية (من أعلى إلى أسفل) كاسراً شرّها المحتمل، على "لوحة" الصورة الفوتوغرافية التي رسمتها عدسة الفنانة اللبنانية باحتراف عن مؤخرة المركبة القديمة. ولا تشوش مخلّفات الشحم المتراكم تحت غبار الطرقات الملموم من دروب سفر السائقين الممتدة في كل الجهات على لقطة الزخارف الهندسية الملونة، والتي تبدو ـ لولا التدقيق فيها ـ كوشم ضوئي ناجز، ومستقل بذاته.

لكنّ عبارة "كل شيء مكتوب على المركبات" ليست دقيقة تماماً. فغياب "السياسة" أمر لا يفوت العين في بلد يخضع كل شيء فيه تقريباً للتسليع السياسي على مدار اللحظة. إذ يبدو للوهلة الأولى أنّ "كُتّاب" الشاحنات قد "أسقطوا" من اعتبارهم تداول الشعارات السياسية الفاقعة، و"حيّدوا" أنفسهم و"كميوناتهم" عن الجدل الأزلي الدائر في هذا السياق.

وتعلل قساطلي ذلك بطبيعة العمل الأصلية التي تفرض على السائقين أن ينقلوا حمولاتهم في طول البلد وعرضه، بل وإلى بلدان أخرى كذلك. وهذا ما يحتّم عليهم المرور في مناطق لا تشاطرهم الانتماء السياسي أو الديني. تقول قساطلي: "الشاحنة هي مصدر رزق في نهاية المطاف، بينما "شجرة الأرز" ولفظة "الله" رمزان جامعان لا

يعترض عليهما أحد، ولهذا يكتفي خطاطو ورسامو الشاحنات بهما في معظم الأحيان".

على أنّ هذا "النأي بالنفس" لدى هذه الشريحة المجتمعية من اللبنانيين لا يحول نهائياً دون إبداء الرأي، بل والسخط على الأوضاع القائمة، لكن بطرق مواربة وغير مباشرة. إذ يمكن للمرء أن يلمس كثرة العبارات السوداوية التي يَمهُر بها السائقون (ولاسيما العموميون منهم) جدران مركباتهم: "أهل الوفا ماتو". "تحياتي لمن دمر حياتي". "عندي عدّاد وما رح شغّلو". أو عن طريق النكتة المكتوبة التي لا يحتاج الناظر إلى وقت كثير لتذوق المرارة التي تخفيها عندما يقرأ على مركبة متهالكة لا يستطيع صاحبها استبدالها، عبارة "الفوكس بعين صاحبها هامر"، أو "حتى هدف حياتي طلع تسلل". أو "بدك ترضي بليس خود من الآدمي وعطي الخسيس".

والتركيز على موضوع "الحسد" و"العين الشريرة" لا يشذّ كثيراً عن هذا السياق. فالمخاطر التي تكتنف عمل سائقي الشاحنات، كالتحكم بقيادة مركبات ليس من السهل السيطرة عليها، والبقاء وحيدين على دروب طويلة وعرة ومقفرة معظم الأحيان؛ لا يترك لهم مجالاً إلا للجوء إلى الغيبي، وتحصين أنفسهم ضد الشرّ (انعدام الحس بالأمان) ممثلاً بـ"الحسد"، الذي جاوز عدد صيغ تعاويذه التي رصدتها قساطلي الستين عبارة.

تؤكد اختصاصية العلوم الإنسانية أنّها كانت تخطط لجولة مشابهة في سوريا قبل 2011، من دون أن تدري أن قانون المرور الجديد الذي صدر هناك قبل ذلك التاريخ منع ممارسة هذا النوع من "الفنون". ورغبة قساطلي بزيارة الشام نابعة أساساً من أنّ الكتابة على المركبات قد دخلت إلى لبنان من سوريا في ثمانينات القرن الماضي.

وعليه فإنّ عمر هذا "الإرث" لا يتجاوز العقود الثلاثة. وتجادل قساطلي بأنّ الفرصة ما زالت متاحة أمامه للبقاء، إذ التقطت أكثر من 300 عبارة جديدة من هذا النوع أخيراً إضافة إلى الـ 2200 الأخرى المذكورة في الكتاب. ولكنّ هذا الأمر يظلّ قابلاً للنقاش مع استمرار التهديدات التي تحيق به، والمتمثلة بسيطرة الدولة والشركات الخاصة على جزء لا بأس به من قطاع النقل، وذهاب الطرفين باتجاه فرض شكل موحد للمركبات "يونيفورم". فضلاً عن قضم شركات الإعلان مساحات كبيرة من تلك الفضاءات المتحركة، محولة السائقين المستقلين إلى مجرد "موظفين".

ورغم أن "اليونسكو" منحت إحدى جوائزها الخاصة بالحِرَف اليدوية للفنانة أنجوما رانا القادمة من باكستان حيث يزدهر هذا النوع من الفنون التقليدية (يغلب عليه هناك الرسم أكثر من الكتابة)، بيد أنّ ذلك لم يمنع متصفحاً "مثقفاً" لكتاب هدى قساطلي من وصف هذا الفن الشعبي بالـ"منفّر". وهو بالضبط ما يعيدنا إلى همّ أساسي من هموم هذه الشريحة المهمشة، أي استرداد شيء من الفضاء العام الذي إما أن تصادره السلطة السياسية القائمة، أو تحتكره لنفسها الذائقة "المثقفاتية" المغرقة في تغرّبها عن محيطها.

وإذا أضفنا إلى ما يُكتب على الشاحنات من الخارج، الزخارف والتزيينات الداخلية في مقطورات السائقين، وشرائط الموسيقى العربية الكلاسيكية التي تؤنسهم في ساعات سواقتهم الطويلة والموحشة طلباً لـ"السترة"؛ ندرك سريعاً ذلك التوق المُلحّ لديهم إلى استراد صوت مسروق، وفتح نوافذ تواصل مع الآخر وإن كان مجرد عابر سبيل، وإضفاء تفاصيل حميمة قد تذكّر بالمنزل أو الوطن داخل غرفة سجن "الرزق" المتحركة تلك.

المساهمون