هجوم أورلاندو بين المأساوي والانتخابي

16 يونيو 2016
+ الخط -
من الغريب أن يجري تحجيم الهجوم الإرهابي الذي استهدف ملهىً ليلياً في مدينة أورلاندو الأميركية، والدوس على دماء ضحاياه، ليصغر، فيسقط من حادث مأساوي ومصيري، يلامس سلامة كل مواطن أميركي، إلى فعل تسويقٍ انتخابي، جاء في الوقت المناسب. فعِوَضَ التفات موظفي هذا الاعتداء إلى تداعياته وآثاره على حياة الشعب الأميركي وأمنه، سارعوا إلى وضعه في خانة السباق الانتخابي، وأخذ كلٌّ يحيله إلى رؤياه وأولوياته التي بنى حملته الانتخابية على أسسها. ذلك كله في حين لم يفعل المسؤولون الأميركيون ما ينبغي، أو يضع المرشحون للرئاسة تصوراتٍ ناجعةً وواقعية، لحماية مواطنيهم من هجماتٍ كهذه، أو بالتحديد، من هجمات ينفذها تنظيم داعش الذي تبنى العملية، واعترف منفّذها بانتمائه له.
أياً كانت دوافع منفذ هجوم أورلاندو الإرهابي الذي وقع يوم 13 يونيو/حزيران الجاري، وراح ضحيته 49 شخصاً، وأياً كانت ارتباطات مرتكبه، أو انتماءاته الدينية أو العقائدية، فهو جاء في الوقت الحرج من سباق الانتخابات الأميركية، ليفعل فعلته ويقلب الموازين، ويغيّر في استراتيجيات المرشحين، إن لم يحسم نتائج الانتخابات منذ الآن. وبينما كان المرشحون لهذه الانتخابات يضعون نصب أعينهم المدن والولايات الأميركية الكبيرة، لتكون الفيصل في صندوق الاقتراع، ربما يقيّد لمدينة أورلاندو الصغيرة أن تكون هي مصدر الصوت الحاسم، وتحدّد رئيس الولايات المتحدة المقبل، لا تلك المدن أو الولايات.
وجاء الاعتداء كأنه ليخدم المرشح للرئاسة الأميركية عن الحزب الجمهوري، دونالد ترامب. فتلقفه الرجل، وبدأ بالترنّم بلحنه، فلم يبدُ حزيناً لسقوط الضحايا، بقدر ما بدا مشرقاً، معترفاً بتلقيه التهاني، بفضل تحقّق هواجسه وتحذيراته التي جاء المعتدي ليكرّسها له، ويردّها هو إلى مؤيديه، وإلى آخرين ليسوا في صفه، عله يستميلهم ويسحبهم من صف غريمه، ويكونون عونه في انتصاره ووصوله إلى الكرسي في يوم الانتخابات القريب. وهو لذلك استعاد خطابه العنصري المعادي للمسلمين، مخرجاً إياهم من دائرة تشكيل الخطر، إلى دائرة الاتهام بالتسبّب به، والتستر على مرتكبه، أو مرتكبيه. فقد قال، في بيانٍ أصدره بعد الهجوم، إنه تنبأ بحدوث عملياتٍ كهذه، وأنه يتوقع حدوث عملياتٍ أخرى، ربما أسوأ منها. ثم أضاف، في خطابٍ ألقاه في اليوم التالي للمجزرة، أنه حين يتم انتخابه، فإنه سيعلق الهجرة من مناطق في العالم لها ماضٍ من الإرهاب ضد بلاده وحلفائها الأوروبيين. طبعاً، لا بد من شمل جميع المسلمين في هجومه عليهم، حين اتهمهم بعدم التعاون مع السلطات، للكشف عن مشبوهين، مثل منفذ الاعتداء عمر متين، أفغاني الأصل.
أما هيلاري كلينتون، المرشحة للرئاسة الأميركية عن الحزب الديمقراطي، وعلى الرغم من أنها
لم تهاجم المسلمين، لتوظيف حمّى العداء لهم لصالحها، كما فعل دونالد ترامب، لكنها وظفته لإطلاق خطابٍ تريد منه أن يكون عقلانياً ويدعو إلى التهدئة، فانتقدت الخطاب المعادي للمسلمين، أي خطاب ترامب، موظفة الموضوع، في النهاية، في الإطار الانتخابي. وهي دعت، في هذه المناسبة، بعد انتقادها خطاب العداء، إلى عدم تصوير المسلمين أشراراً. وعلى عكس ترامب الذي دافع عن القوانين التي تتيح حيازة السلاح، وقال إن المجزرة ما كانت لتحدث، لو كان مرتادو المقهى مسلحين. انتقدت كلينتون سهولة الحصول على أسلحةٍ فردية في بلادها، وهو ما يساعد في شن هجماتٍ كهجوم أورلاندو.
من جهة أخرى، وقع هذا الهجوم في وقتٍ مازال المسؤولون الأميركيون يعتقدون فيه أن بلادهم منيعة ضد إرهاب داعش واعتداءاتها، مدفوعين بمعطياتٍ سلموا بها، وارتاحوا إليها، فاستهانوا بمحاربة التنظيم، بناءً عليها. فعلى عكس موقع أوروبا، اعتبروا بُعد موقع بلادهم عن مناطق الصراع في الوطن العربي ومناطق انتشار "داعش" فيه، والتي تنطلق منها موجات الهجرة التي يصعب وصولها إلى الشواطئ الأميركية، اعتبروه عامل أمانٍ لهم ضد التنظيم، وشنه الهجمات. وطبعاً، هم بذلك تناسوا أن من شنوا هجمات باريس وبروكسل شبانٌ من الجيل الثالث من المهاجرين المسلمين، ولم يَقدِموا بعد الحروب التي اندلعت في المنطقة وظهور داعش فيها.
وفي وقتٍ قال فيه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إنه لم تتوفر أدلة تشير إلى أن منفذ الاعتداء تلقى توجيهات من الخارج، أيد مكتب التحقيقات الفيدرالية هذا الكلام، مضيفاً أن منفذ الاعتداء اعتنق التطرف عبر الإنترنت. وهو أمر يدين الرئيس أوباما، وغيره من المسؤولين الأميركيين، كما ويدين هذا الجهاز الأمني، بسبب تساهلهم في موضوع عدم محاربة مواقع تنظيم الدولة الإسلامية على الأرض، ومواقعه على الإنترنت بعدم السعي إلى إقفالها. وهي مواقع، يبدو أن استخدامها انتقل من حالة تجنيد الجهاديين في العالم لصالح داعش إلى حالة التنسيق من أجل تنفيذ الاعتداءات بأساليب جديدة، وهي أساليبُ بشّر التنظيم منذ فترة باتباعها.
ربما هو حظ ضحايا اعتداء أورلاندو وذويهم العاثر، أن يتزامن مع حمّى السباق الانتخابي، كما هو حظ الأميركيين عموماً، فلا يجد المسؤولون الأميركيون فرصةً، يركنون فيها، ليتفكّروا في هذا الاعتداء، وفي ما سبقه من اعتداءاتٍ، أو ما يمكن أن يتبعه، فيتعمقون في التفكير، مدفوعين بآلام الضحايا، لإيجاد حلولٍ للتطرف والقلاقل والحروب التي تجتاح العالم، وتفرز مآسٍ وكراهية. لكن الجميع يصرّون على استغلال المآسي والآلام، لإعادة إنتاج مآسٍ جديدة وآلامٍ أشد، عبر الإنكار، وعبر الحياد عن بؤرة الألم الأساس.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.