43.764 شخصاً غادروا لبنان عبر مطار بيروت الدولي، خلال فترةٍ لا تتعدّى 12 يوماً، بعد الانفجار الكبير في مرفأ بيروت، في الرابع من أغسطس/آب الماضي، بحسب "الدولية للمعلومات" (شركة دراسات وأبحاث مستقلة) تاركين خلفهم كثيراً من الآمال الزائلة. الارتفاع المتنامي في أعداد المغادرين ينعكس رغبة شديدة لدى غيرهم من اللبنانيين، في الهجرة نحو أيّ بلدٍ يحفظ كرامتهم الإنسانية وحقوقهم الأساسية، بعدما فقدوا الأمل ببناء وطنٍ يضمن أمنهم وسلامتهم، ويؤمّن أبسط مقوّمات العيش الكريم. هو نهج لبناني متواصل منذ زمن بعيد، سواء في أوقات السلم أو في أوقات الحرب.
وكانت "الدولية للمعلومات" كشفت في 26 أغسطس الماضي، أنّ متوسط عدد الآتين إلى لبنان انخفض بنسبة 12.3 في المائة بعد 4 أغسطس الماضي، إذ بلغ 2410 آتين يومياً، في حين كان 2750 قبل تاريخ الانفجار، بينما ارتفع متوسط عدد المغادرين بنسبة 36 في المائة، ليبلغ 3978 مغادراً يومياً بعد الانفجار، بعدما كان 2925 قبل ذلك التاريخ.
يؤكّد الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين، لـ"العربي الجديد" أنّه "ما من معطيات حتى الآن حول أعداد المهاجرين، فمن المبكر تحديد الغاية من السفر سواء كانت هجرة أم غيرها، إنّما يمكن الحديث عن ارتفاع حركة سفر اللبنانيين بعد الانفجار، كون الآفاق مسدودة اقتصادياً ومعيشياً". ويتوقّع خلال الفترة المقبلة "ارتفاعاً في عدد المغادرين، لا سيّما أولئك الذين يملكون إمكانية السفر، أو الجنسية المزدوجة، لكنّ الحديث عن 380 ألف طلب هجرة يبقى في إطار الكلام فحسب. لا يُعقل أن يهاجر المرء فوراً، إذ إنّ عملية الحصول على جواز سفر وتأشيرة وغيرها من المعاملات تتطلّب وقتاً وليست مسألة سهلة".
في اتصالٍ لـ"العربي الجديد" مع السفارة الكندية في بيروت، يشير الشخص المعني إلى أنّه "للأسف لا قدرة للسفارة على الإدلاء بمعلومات حول عدد طلبات الهجرة المقدّمة من قبل اللبنانيّين، إذ إنّ عمليّة التقديم تجري إلكترونياً أو من خلال مراكز متخصصة بذلك تتوزع في أكثر من منطقة في كندا، بحسب نوع طلب الهجرة". وفي السياق، يفيدنا أحد الموظّفين لدى السفارة الأسترالية في لبنان، بأنّه "تمّ تحويل طلب استفسارنا إلى الشخص المعني" غير أنّنا لم نحصل على أيّ جواب يُذكر بعد أيام من الانتظار والمتابعة. ولدى اتصال "العربي الجديد" بالسفارة التركية، أفادت بأنّه "ما من معدّل نهائي لغاية تاريخه حول طلبات الهجرة إلى تركيا، لكنّ الملاحظ هو الارتفاع الكبير في الاتصالات للاستفسار عن طرق الهجرة والحصول على الجنسية التركية بعد 4 أغسطس الماضي، لا سيّما بعد تصريح وزير الخارجية التركي حول منح الجنسية لمواطنين لبنانيين، وذلك خلال زيارته لبنان عقب الانفجار". ويلفت مصدر في السفارة إلى أنّ "تركيا تبدو الوجهة الأسهل للبنانيين كونها لا تتطلب تأشيرة، إذ يمكنهم إمضاء 90 يوماً في الأراضي التركية، ما يتيح لهم البحث والاطلاع على سبل الحصول على الجنسية أو الإقامة الدائمة. كما أنّ تركيا لا تشترط إجراء فحص "بي سي آر"، الخاص بفيروس كورونا الجديد قبل السفر، إنّما يُطلب الفحص لدى الوصول إلى مطارات تركيا في حال كان الشخص يعاني من ارتفاع في الحرارة".
وإذ تنوّعت الدول التي باشر اللبنانيون الاستفسار عن طرق تقديم طلب الهجرة إليها والمستندات المطلوبة، برزت كندا في طليعة الوجهات المفضلة بحسب ما كشفه هؤلاء لـ"العربي الجديد"، تليها أستراليا والولايات المتحدة الأميركية وعدد من الدول الأوروبية، مروراً بتركيا وقبرص واليونان التي غادر إليها البعض بالفعل. تُضاف إليها أخيراً حالات الهجرة السرية، لا سيّما في شمال لبنان عبر البحر باتجاه قبرص، منذرةً بعواقب وخيمة.
يروي أمير، الشاب الذي تخصّص في مجال هندسة الاتصالات، بحسرةٍ كيف كان يتطلع إلى العيش في وطنه، قبل أن يكتشف كغيره من الشباب أنّه ما من حلّ سريع للأزمة اللبنانية، فالبلد في حالة إفلاس وليست هناك إمكانيّة لأيّ استثمار أو تدفّق للأموال أو حتّى الحصول على الأموال المحجوزة في المصارف. ويقول: "أخطط لمغادرة لبنان إلى بلدٍ عربي مقبول من الغرب، ما يساهم في فتح أفق الهجرة نحو أوروبا أو كندا أو الولايات المتحدة الأميركية". وإذ يأسف "كوننا نعيش في بلدٍ تسوده التبعية للزعيم أو لرجال السلطة، ويعتمد فيه التوظيف على الواسطة"، يتوقّع أن يشهد لبنان "هجرة كبيرة بعد انتهاء فيروس كورونا الجديد، لا سيّما هجرة الشباب والأدمغة". ويقول: "الزعماء والسياسيون لم يتركوا للبناني أيّ شيء، حتى أنّهم خربوا بيته فعلاً بعد الانفجار الذي دمّر أرزاقهم وممتلكاتهم".
ديالا التي كانت تفكّر بالهجرة قبل الأزمة وقبل انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 (انتفاضة شعبية مطلبية يغلب عليها الطابع الشبابي) تشير إلى أنّه "من الصعب مواصلة العيش في لبنان، حيث المحسوبيات والولاء للزعيم والسياسي والحزب، غير أنّ الانفجار فاقم الوضع ودفعني إلى التفكير بالهجرة بشكل جدّي، بحثاً عن الأمان". وتضيف: "على الرغم من أنّني حققت الكثير من النجاحات، فقد واجهت العديد من المصاعب في العمل. فنحن نتعب لنبني مستقبلاً أفضل، ونتطور في حياتنا المهنية، لا لنمضي أيامنا قلقين من خطر الجوع أو مطالبين بأبسط حقوقنا البديهية". الشابة التي تفكر بكندا كخيارٍ للهجرة، تقول: "أريد أن أكون مواطنة تتمتع بحقوقها وواجباتها، وأن يتمّ التعاطي معي وفق معيار الكفاءة لا الولاء السياسي والمحسوبيات".
الأمل الضئيل الذي كان يتمسك به نادر تبخّر بعد الأحداث الأخيرة، وفق قوله. يلفت إلى أنّه سيعرض أملاكه للبيع سعياً للهجرة إلى كندا "كونها تحترم حقوق الإنسان وتؤمّن لنا العيش الكريم". نادر، الأب لثلاثة أبناء، يؤكّد أنّه ما من مستقبلٍ لعائلته في لبنان، ويقول: "لم نعد قادرين على تحمّل القلق والخوف من الغد، بعدما بلغنا مرحلة بتنا نفكّر فيها بكيفية توفير قوت أولادنا من طعامٍ وشراب، بدلاً من التفكير بتعليمهم وبمستقبلهم... حتّى الأمل سرقوه".
"الهجرة هي الخلاص" هكذا تختزل ريما تطلّعها "لا سيّما مع انعدام الاستقرار الأمني والمعيشي، والتخبّط السياسي والظروف الاقتصادية الصعبة والأزمة السياسية المستفحلة". تقول: "كلّ مقوّمات الحياة الكريمة معدومة... الخوف والقلق يسيطران علينا، خصوصاً بعد انفجار المرفأ، إذ لم تبقَ أيّ بارقة أملٍ بالاستمرار أو التغيير أو ببناء مستقبلٍ واعدٍ". وتضيف: "أفضّل الهجرة إلى بلد أوروبي، أعيش فيه بأمانٍ واستقرار، وأتمتّع بخدمات الطبابة والاستشفاء وغيرها، عوضاً عن البقاء في لبنان، حيث الأفق المسدود بعدما عدنا أيضاً إلى العصور الحجرية، إذ لا كهرباء ولا مياه، وفرص العمل معدومة والرواتب بالكاد تكفي لأيام معدودة في ظلّ الغلاء الفاحش والاستغلال".
أمّا الثلاثينية التي تكتفي بالتعريف عن نفسها بأنّها "مواطنة لبنانية" فتقول: "أفكّر جديّاً بمغادرة البلد، إنّه وقت الرحيل من أجل الأفضل، من أجل الاستقرار والاستثمار في المستقبل". وتسأل: "هل هناك من ضمانةٍ بألا يعيد التاريخ نفسه، وألا يتبدّد عملنا وطموحنا وتضمحل جهودنا بأقل من ثانية تحت وطأة الخراب والدمار؟". وإذ تتحسّر على "أزمة الكهرباء والمياه وتلوّث الهواء والطعام وانعدام الاستقرار والعيش الكريم"، تقول: "نفتقد الأمان، وهذا وحده يكفي، فقد بلغت بنا الحال أن نموت بانفجارٍ ونحن في عقر دارنا". الشابّة التي تفكّر بكندا أو الولايات المتحدة الأميركية أو أوروبا كخيارٍ للهجرة، تلفت إلى أنّ "كندا تأتي في الطليعة، نظراً للفرص المتوافرة في مجال عملي بالعلاقات العامة، ومقوّمات الحياة والإمكانات التي تتيح بناء مستقبلٍ أفضل، وبالتالي ما تتميّز به كندا من نمط حياةٍ يقوم على ثقافة التسامح وقبول الآخر". وتضيف: "كنتُ فعلاً مؤمنة بلبنان ورفضت سابقاً عروض العمل خارج البلد. كان ينتابنا شعور الاندفاع والطموح والأمل بأنّنا ذاهبون نحو الأفضل سياسياً واقتصادياً خصوصاً في السياحة، بعد خروج الجيش السوري (2005) نحو وطنٍ يشبهنا، غير أنّ ذلك لم يكن سوى وهم وأمل كاذب".
أمين الذي خسر عمله وأمواله في انتظار إصلاح أحوال البلد، يقول: "العمل في لبنان لا يعتمد على الكفاءة، بل للأسف يجب أن يكون المرء جزءاً من المنظومة الفاسدة كي ينعم بالخدمات والوظائف والتأمينات بل بالتعليم والطبابة. نعيش في بلدٍ يغرق بالطائفية ويفرض على شعبه الفقر والذل، بلد لا وجود فيه للدولة أو المؤسسات، والقانون فيه شكلي فحسب". الشاب الذي اضطر شقيقاه إلى السفر منذ سنواتٍ، يضيف: "أبحث عن سبيلٍ للهجرة، ربّما إلى أستراليا أو إسبانيا، لعلّني أتمكّن من الاستقرار والعمل، ومن تأسيس عائلةٍ خارج لبنان، فالحياة هنا صعبة جداً".
يعبّر بيار عن رأي معاكس، إذ يؤكّد أنّه "من الممكن أن يشعر المرء بالإحباط وأن يلعن الساعة التي وُلد فيها في هذا الوطن". لكن بيار يرفض الهجرة التي ربّما يفكّر بها أبناؤه، ويضيف: "قد أسافر بعقد عملٍ لتلبية متطلّبات الحياة، لكن لا بديل عن لبنان، وأنا على ثقة بأنّ التغيير قد بدأ ولو أنّ الأحداث تفاقمت، لكن سيأتي يومٌ تتسلم فيه فئة كفوءة زمام الأمور، فكثيرون توّاقون للعيش في وطنهم، بعيداً عن الطائفية والفساد والسلاح غير الشرعي". ويرى أنّ "العائق المادي قد يؤدّي إلى تريّث البعض في اتخاذ قرار الهجرة، وقد يضع الواقع المرير المرء في صراع داخلي حول ما يجب أن يُقدم عليه".