تحدّيات التمثيل عند توم هانكس: الشخصيّات واقعية ومتشابهة لكنّ الأداء متنوّع

03 اغسطس 2020
توم هانكس: تنويع دائم لأدوارٍ درامية متشابهة (غاريث كاترّمول/ Getty)
+ الخط -

شخصيات حقيقية عدّة يؤدّيها توم هانكس (كاليفورنيا، 1956) في أفلامٍ راسخةٍ في المشهد السينمائي، تتحرّر من نمطيّة تشويقية بحتة. شخصيات تبلغ عمق المأزق ـ الأخلاقي والنفسي والروحي ـ الذي يُصيبها جرّاء فعلٍ تراه الشخصيّة نفسها الأفضل والأحسن للآخرين، محاولةً عبره درء كلّ خطرٍ ممكن عنهم. ثنائية الشخصية الحقيقية ومواجهة أسئلة تصبّ في الأخلاقيّ والمهنيّ، كما في الحدّ الفاصل بين الواجب والتصرّف الفرديّ المنبثق من راهن الحدث، ركيزة سينمائية لهانكس، الباحث عبر أدوارٍ واقعيّة (وبعضها غير معنيّ بشخصيات حقيقية، بل بأفرادٍ يُمثّلون، أحياناً، أناساً عاديين) عن تناقضات التفكير والمهنة والسلوك والمسؤولية والعلاقة بالآخر، إنْ يكن الآخر مقرّباً منّه أو غريباً "يتوجَّب" عليه إنقاذه أو مساعدته في بحثه عن خلاصٍ ما، رغم الثمن الباهظ الذي يُضطرّ إلى دفعه لقاء تنفيذ مهمّة، ستكون واجباً يستند إلى الأخلاقيّ والنفسيّ والإنسانيّ والمهنيّ في آنٍ واحدٍ.

براعة أداء توم هانكس تحول دون تكرارٍ لصيغة واحدة في تمثيل شخصياتٍ، تجد نفسها في مآزق متشابهة. براعة تكشف تمكّنه من إزالة كلّ فرقٍ بين تمثيل وواقعٍ، أو بين حقيقة ومتخيّل سينمائيّ، من دون تصنّع أو افتعال أو إلغاء لأولوية التوازن بين الحقيقيّ/ الواقعيّ والمتخيّل/ التمثيليّ. تشيزلي سولّينبرغر في "سولي" (2016) لكلينت إيستوود مثلاً، نموذجٍ لتلك الثنائية المندمج أحد طرفيها بالآخر: شخصية حقيقية تُحاصَر بمأزق التساؤل عن أي فعلٍ بهدف الإنقاذ رغم المخاطر، وعن تضارب الواجب بالمهنة وقواعدها، وعن صدامٍ قاسٍ بين ركائز العمل ومتطلّبات اللحظة. حنكة والت ديزني، في "إنقاذ السيّد بانكس" (2013) لجون لي هانكوك، محتاجة إلى حِرفية تمثيلٍ تتجاوز مهنة الأداء إلى حالة تخبّطٍ، ممزوجٍ بجاذبيّة الشخصية الحقيقية لماري بوبّنز، وبمفردات المهنة وحاجاتها، التي يقع فيها أحد أبرز منتجي هوليوود، في ستينيات القرن الـ20. هذا ما يفعله هانكس. "كابتن فيليبس" (2013) لبول غرينغراس و"إنقاذ المجنّد راين" (1998) لستيفن سبيلبيرغ يمنحان شخصيتي القبطان ريتشارد فيليبس والكابتن جون أيتش. ميلر مساحةً لبحثٍ معمّق في الذات والوعي والتفكير عن فعلٍ يُفترض بالشخصيتين تحقيقه، رغم تساؤلات جمّة تُختَزَل بواجب ومسؤولية وضمير، وبمتطلّبات مهنة وانفعال إنساني وتفكير آنيّ بعواقب ونتائج.

اللائحة طويلة. توم هانكس بارع في تقديم شخصيات كتلك، وأخرى تدور في المناخ الدرامي والجماليّ والإنساني نفسه، بعيداً عن تكرار يصنع مللاً، وعن تشابه في الأداء يُثير نفوراً. ورغم اعتماده على تفاصيل غير متغيّرة في أدوارٍ كهذه، يكشف توم هانكس، دوراً تلو آخر، عن تفوّقه في تحرير نفسه من شخصية، بهدف الذهاب إلى أخرى تعاني أهوالاً متشابهة، وتتصرّف بوحي من اللحظة والأفعال الحاصلة والمناخ الشاهد على حدثٍ أو حالةٍ، فيكون التمثيل متعة، والمُشاهدة اختباراً جديداً في رحلة البحث عن تجديدٍ دائمٍ في عيش الممثل، هو أيضاً، اختبارات مختلفة.

 

 

آخر تلك الأدوار يُؤدّيها توم هانكس في "غرايهوند" (2020) لآرون شنايدر. مُقتبساً إياه من رواية "الراعي الصالح" (1955) للكاتب البريطاني سيسيل سكوت فوريستر (1899 ـ 1966)، يصنع هانكس، كسيناريست، مشهدية سينمائية يتبوّأ فيها الصدارة، متجوّلاً بين مساعدين يُنفّذون أوامر إرنست كْرَاوْزا (هانكس)، قائد المدمِّرة الأميركية "كيلينغ" (اسم الرمز في الاتصالات اللاسلكية "غرايهوند")، في أول مهمّة له في شمال المحيط الأطلسي، في فبراير/ شباط 1942. التحدّيات كثيرة، فالحرب العالمية الثانية مندلعة بعنفٍ، والصدامات البحرية بين الحلفاء والنازيين غير منتهية، والغوّاصات الهتلرية تجهد في منع كلّ تواصل بين الولايات المتحدّة الأميركية ـ المنخرطة في تلك الحرب بعد الاعتداء الياباني على بيرل هاربر، في 7 ديسمبر/ كانون الأول 1941 ـ وبريطانيا، يهدف (التواصل) أساساً إلى تأمين حاجيات أساسية للناس. مهمّة تضع كْراوْزا/ هانكس في مواجهة نفسه مرّة أخرى، كما في مواجهة تحدّيات جمّة، يحاول أمامها إيجاد توازن بين مهنة وواجب.

لا علاقة لعنوان الرواية بثاني فيلمٍ روائيّ يُخرجه الممثل الأميركي روبرت دي نيرو (ويمثِّل فيه أيضاً). فـ"الراعي الصالح" (2006) لدي نيرو يغوص في عالم الاستخبارات والحرب الباردة، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أيضاً، بينما رواية فوريستر معنيّة بحالةٍ نفسية يعانيها قائد مدمِّرة أميركية تحمي سفناً عدّة من مخاطر الإبحار في مسافات غير محمّية من الطيران (ساعاتٍ عدّة تمرّ من دون تلك الحماية، لأسبابٍ عسكرية وأمنية تفرض انسحاب الطائرات من مهمّاتها). حالاتٍ تبدأ من حياته السابقة على بدء مهمّته الأولى (علاقة حبّ غير مكتملة بسبب الحرب، كما في بداية الفيلم)، وتضع المعرَّض لها أمام أهوال حربٍ تحاصره بحراً، وتخترق ذاته المرتبكة بصمتٍ أمام مسؤولية إنقاذ الجنود من عنف النازيين.

بهذا، يكشف توم هانكس مُجدّداً معنى التمثيل المنصرف إلى تجديد لغته، أمام كاميرا تُعرّي المرء/ الشخصية/ الممثل، لكشف متطلّبات ومقوّمات ومعطيات تخدم النصّ الأصلي من دون تصنّع أو تكرار.

المساهمون