نور غريغوار حداد

29 ديسمبر 2015

غريغوار حداد نادى بالعلمانية الشاملة (حسين بيضون)

+ الخط -
رحل بصمت غريغوار حداد، صمتٌ التزمه منذ سنوات، ليس بسبب المرض الذي أقعد جسده، ولم يقعد عقله النيّر وذهنه المتوقد، ولم يفقده البسمة على وجهه المشع نوراً وإيماناً وحياة. تدخل عليه وهو في سريره، فيستقبلك والابتسامة تشع من عينيه، ويبادرك فوراً بالسؤال عن رأيك في آخر الأحداث والتطورات. تجيب، وتنتظر تعليقه، فإذا بالابتسامة نفسها ترتسم على شفتيه، فتحتار، وعليك أنت أن تستنتج ما إذا كنت قد أقنعته بوجهة نظرك أم لا.
صمتُ المطران غريغوار كان مدوياً، بمثابة صفعة في وجه الطبقة السياسية التي أغرقت لبنان في التطيّف في العقد الأخير، وتطيّفت هي حتى العظم. لم يكن يتوقف كثيراً عند الأشخاص وسياساتهم، بل كانت تهمه سياسة القضايا. صوته الهادئ والخافت راح يهدر، منذ نحو نصف قرن، بالقضايا الاجتماعية والإنسانية، ما دفعه إلى أن ينزل عام 2011 إلى الشارع (ولو في سيارة) يتقدم جمهوراً من جيل الشباب الهائم على وجهه، والذي يحاول عبثاً الإفلات من براثن الطوائف والمذاهب. ومن موقعه رجل دين نادى بالعلمانية الشاملة، عبر الفصل بين الدين والدولة في مختلف مجالات الحياة العامة. لم يأبه مطران بيروت للحرب التي شُنت عليه من داخل الكنيسة ومن خارجها، من السلطتين الدينية والزمنية معاً.
كان الإنسان هدف غريغوار، وشغله الشاغل طوال حياته، وخلال مسيرته النضالية الحافلة بالمبادرات والمشاريع الاجتماعية والإنسانية الخلاقة. ويوم ارتسم كاهناً في منتصف الأربعينيات، قال لمن حوله: "سوف أبقى كما أنا، ولا تعتبروا أنني أصبحت أعلى رتبة منكم"، وربما يعود ذلك إلى نشأته التي أغنتها خلطة متنوعة المذاهب، بين جده الأرثوذوكسي وأبيه الإنجيلي ووالدته الكاثوليكية. وراح، منذ بداية الستينيات، وقبل أن يصبح أهم الأساقفة الكاثوليك، يخوض معركته الاجتماعية والإنسانية إلى جانب الفقراء، فكانت "واحة الرجاء" التي حضنت المحتاجين والمعوزين والمعدمين والمشردين والبلا طعام. ثم أسس "الحركة الاجتماعية" التي افتتحت الطريق أول مرة أمام العمل التطوعي في لبنان، بهدف تقديم الخدمات في المجالات الاجتماعية كافة لمختلف الفئات الشعبية، وتوسعت الحركة ليصبح لها نحو أربعين فرعاً في كل أنحاء لبنان، ما جعل "مطران الفقراء"، كما يحلو لكثيرين تسميته، ركيزة أساسية من الركائز التي استعان بها الرئيس فؤاد شهاب (1958 - 1964) في عملية الإصلاح، وبناء الدولة، وإنشاء المؤسسات الاجتماعية.
"تنمية الانسان، كل إنسان وكل الإنسان"، شعار تصدر كل أفكار غريغوار حداد ونشاطاته
 ومبادراته وحواراته والتيار المدني الذي أطلقه. كان إيمانه حقيقياً وصافياً، وكان يرى الله في كل إنسان، بغض النظر عن دينه ولونه وجنسيته. وفهمه هذا للإيمان ونظرته للإنسان راح يبلورهما ويعمقهما عبر مجلة "آفاق" التي أسسها عام 1970 مع عدد من الآباء رفاق الدرب، بعد أن أصبح أسقف العاصمة. فقد قرر المطران عملياً خوض معركة الإصلاح في الكنيسة من بابها الواسع، وكان التجاوب واسعاً في الأوساط الثقافية والفكرية والاجتماعية مع هذه الخطوة الجريئة وغير المسبوقة.
ذهب أسقف بيروت بعيداً في نظرته، وهو الذي انتدب للمشاركة في المجمع الفاتيكاني الثاني الشهير في روما عام 1965 الذي أطلقه البابا يوحنا الثالث والعشرون، معتبراً أن المسيح لم يؤسس كنيسة، ولم يرد إنشاء سلطة هرمية، وأن الكنيسة كمؤسسة ظهرت بعد المسيح بثلاثمئة سنة.
عندها، تحول "مطران الفقراء" إلى "المطران الأحمر"، فكان رده على هذا الاتهام بسيطاً وبليغاً في آن، بتأكيده أن الشيوعية هي التي تبنت تعاليم الكنيسة، وليس العكس. وقد شكلت أطروحاته تحدياً للسلطة الكنسية العليا، واعتبرت خطوته بمثابة "القشة التي قصمت ظهر البعير". فشن عليه تحالف السلطتين، الكنسية والزمنية، حرباً قاسية، اتهم خلالها بالخروج على الدين وتعاليم الكنيسة، ورفع بطريرك طائفة الملكيين الكاثوليك قضيته إلى الفاتيكان، المرجع الأعلى والأول والأخير لكل كاثوليك العالم. وذهب غريغوار إلى روما، ليدافع عن موقفه وأفكاره وإيمانه، وعاد بعد نقاش مستفيض، حاملاً معه "براءة ذمة" في إيمانه المسيحي، إلا أن الفاتيكان ترك للبطريرك خيار إبقائه على رأس مطرانية بيروت، أو نقله إلى أبرشية أخرى، وفضل البطريرك الخيار الثاني.
لم يأبه المطران الهادئ والوديع للسلطة أو الموقع، ولكل الحملات التي تعرّض لها، ولم تفارق البسمة محياه، واستمر يمارس قناعاته ونشاطاته ويوسعها. وعندما تضيق فيه الأحوال، كان يعتكف وينزوي في إحدى الأديرة البعيدة، ويتفرّغ للصلاة والتأمل، بعيداً عن ضوضاء وغوغائية ما تبثه وتتناقله حملات التشكيك والافتراء عليه. وفي أواخر التسعينيات، عاد غريغوار بزخم مدني وروحي، وبدأ حواراً مع مجموعة من الشباب والمهتمين، كان كاتب هذه السطور واحداً منهم، أدى إلى تأسيس تيار سياسي مدني لاطائفي (1998) أطلق عليه اسم "تيار المجتمع المدني"، لخوض معركة العلمانية. ثم أطلق "مشروع الدواء المدعوم" (2000)، وهو مركز لتزويد المستوصفات في مختلف المناطق اللبنانية والمحتاجين بالأدوية وبأسعار جد مخفضة. وكان، في الوقت عينه، ينظم سهرات إنجيلية أسبوعية، ويطل في برنامج تلفزيوني أسبوعي، يشرح فيه حياة المسيح ومعاني الإنجيل. ومساء 6 يونيو/حزيران 2002، وفور وصوله إلى مبنى التلفزيون، فاجأه أحد المتعصبين الموتورين (أو المدسوسين؟) وعاجله بصفعتين على وجهه وطرحه أرضاً. أوقف الفاعل، وأُحيل إلى القضاء، لكن غريغوار صفح عنه ورفض الادعاء عليه، فأطلق بعد أسابيع. كان لاعنفياً بامتياز.
شكل غريغوار مستقبل الكنيسة التي لم ترد أو لم تعرف أن تتلقفه. كان بمثابة النور الذي يضيء الطريق، يزرع الأمل في النفوس، ولا يفارقه التفاؤل. وكان يرى الحياة والمحبة والإيمان في كل شخص في الطريق، لدى الجائع، والعطشان، والعريان، والمريض، وحتى السجين. وكأنه كان يمهد الطريق لمجيء البابا فرنسيس الذي أدخل انتخابه الارتياح والطمأنينة إلى قلبه. لم يحب السلطة، ولم يقاربها ولو من بعيد، صديقه وشبيهه الأب بيار الفرنسي دخل البرلمان، معتبرا أن في وسعه أن يكون أكثر تأثيراً وفعالية في دعمه الفقراء، أما غريغوار فلم يراوده ذلك بتاتاً.
كان يحسن التعاطي مع الجميع ومخاطبة الجميع، شباباً كانوا أم كباراً أم شيوخاً أم أطفالاً. لكل لغته. لم يكن ليُغضب أحداً، ولا يحاكم أو يدين، أو حتى يحاسب أحداً، ولا يحقد على أحد.
كان يحب الجميع بدون استثناء، إنها طاقة ومقدرة نادرتان.

5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.