نهاية "دجّال" الفاشية الجديدة
مرّ الخبر من دون أن يثير اهتماما كثيرا، خصوصا في وسائل الإعلام العربية. توقيف ستيف بانون، الرئيس التنفيذي السابق لحملة الرئيس دونالد ترامب وكبير مستشاريه في البيت الأبيض عدة شهور، بتهمة اختلاس أموالٍ من مئات آلاف المتبرّعين في إطار حملة لجمع الأموال لبناء الجدار على الحدودي مع المكسيك. وبانون ليس مجرّد موظف عادي، وإنما كان يوصف بأنه "المادة الرمادية" التي كانت تفكّر وتخطط للرئيس الأميركي، وهو بالمناسبة سادس مساعد مقرّب من ترامب يواجه اتهامات جنائية من وزارة العدل. ويأتي توقيفه وتوجيه الاتهام له في وقتٍ حرج للرئيس الطامح إلى الفوز لولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. وشاءت المصادفات أن تلقي الشرطة القبض على كبير استراتيجيي ترامب الذي جعل من الهجوم على الصين حصان طروادة في حملته الرئاسية الثانية، بينما كان على متن يخت ملياردير صيني منشق قبالة سواحل ولاية كونيتيكت!
وحسب وسائل إعلام أميركية، يواجه ستيف بانون تهما بالاحتيال واختلاس مئات آلاف الدولارات من أموال جمعها من متبرّعين ليصرفها على نمط حياته الباذخة، بينما أوهم المانحين، وبينهم أطفال قصّر، بأن الأموال ستذهب إلى بناء جدار الفصل مع المكسيك الذي وعد به الرئيس ترامب في حملته الانتخابية الأولى، وتوعد المكسيك بأنها ستدفع ثمن بنائه!
كان ستيف بانون يرى في قيام حرب مدمرة كبيرة السبيل إلى إعادة صياغة القوة الأميركية وبسط هيمنتها على العالم
أخيرا سقط القناع، وتم اكتشاف الوجه الحقيقي للرجل الذي وصف يوما بأنه صانع نصر ترامب ومهندس سياساته، وعقله الاستراتيجي، ليظهر أنه مجرد محتال بارع، ومختلس بائس سرق أموال متبرّعين بسطاء بعد أن باع لهم الوهم. وسقوط بانون في مثل هذا التوقيت مهم وله أكثر من دلالة، فهو يأتي عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يطمح ترامب في أن يجدّد خلالها ولايته الثانية، وفي سياق دولي مضطرب، يتميز بفشل حكومات كثيرة، خصوصا منها اليمينية، في مواجهة وباء كورونا. ولذلك يرى محللون أميركيون عديدون في هذا السقوط مؤشرا على مآل ترامب ووعوده الكاذبة. وفي أوروبا الغربية، خصوصا في أوساط اليمين الفاشستي المتطرّف، سيفتقدون واحدا من أبرز منظّريهم، كان حلمه توحيد اليمين الأوروبي الشعبوي الراديكالي، لإسقاط الاتحاد الأوروبي من الداخل.
لم يكن ستيف بانون مجرّد موظف سابق في البيت الأبيض، وأحد أقرب أصدقاء الرئيس الأميركي الحالي قبل أن يختلفا ويفترقا، وإنما كان فكرة جهنمية خطيرة. كان يرى في قيام حرب مدمرة كبيرة السبيل إلى إعادة صياغة القوة الأميركية وبسط هيمنتها على العالم. تتلخص فلسفته، إن صحّ أن نسمّي الفكر الجهنمي فلسفة، في تقوية الرأسمالية الليبرالية، وتغذية النزعات القومية، وإعلاء القيم اليهودية المسيحية، ليبسط الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية، سيطرته على العالم. ويقوم منطق بانون الفاشي هذا على نظرية مروّعة، إن التفوق الأميركي لم يحدث في الماضي إلا بعد أن دخلت البلاد في أزماتٍ كبيرة، وأن الخلاص من هذه الأزمات لا يكون إلا عبر خوض حروبٍ كبيرة ومدمرة. وفي محاضرة له ألقاها عام 2014 في الفاتيكان، يعرب عن اعتقاده بأن الحرب المدمّرة التي ينادي بها بدأت بالفعل، ويسميها "الحرب العالمية ضد الفاشية الإسلامية"!
سقوط بانون في هذا التوقيت مهم وله أكثر من دلالة، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يطمح ترامب في أن يجدّد خلالها ولايته الثانية
يُعتقد أن بانون هو الذي وضع عبارة "الفاشية الإسلامية" في خطاب تنصيب الرئيس الأميركي الحالي، وهو الذي كان وراء قرار حظر دخول رعايا سبع دول إسلامية إلى الولايات المتحدة مع بداية حكم ترامب، بدعوى حمايتها من الخطر الإرهابي الذي يتهدّدها. فالرجل لم يكن يخفي عداءه للإسلام، بل ويعتبر أن الحرب ضد ما يسميها "الفاشية الإسلامية" ستكون "رابع أكبر صراع حضاري" يتمخض عن "حربٍ وجوديةٍ عالمية" بين "اليهودية المسيحية الغربية" و"الفاشية الإسلامية". وحتى بعد أن طرده ترامب من البيت الأبيض، بسبب خلافاتٍ في النفوذ بينه وبين جاريد كوشنر (صهر ترامب و"مستشاره")، حمل عصاه، وتوجه إلى أوروبا، مبشّرا بأفكاره الفاشية، ومعلنا عن تأسيس جبهةٍ يمينيةٍ راديكاليةٍ للإعداد لما يعتبرها معركة الغرب الكبرى ضد "الفاشية الإسلامية" التي تجسّد، في اعتقاده، أكبر خطر يهدّد الوجود اليهودي المسيحي!
كان أحد أهداف بانون دعم اليمين الأوروبي الراديكالي للسيطرة على البرلمان الأوروبي في انتخابات 2019، ولكن هذا لم يتحقق، على الرغم من زيادة عدد نواب الأحزاب الشعبوية اليمينية داخل المؤسسة التشريعية الأوروبية، وزيادة ترويج الأفكار اليمينية الراديكالية، لتقويض الفكر الليبرالي من الداخل، وتفكيك الاتحاد الأوروبي من الداخل، على اعتباره القوة الاقتصادية المنافسة لأميركا، وإعادة بناء "أميركا عظيمة مرة أخرى"، وهو الشعار الذي استلهمه منه ترامب، وأسس عليه حملتيه، السابقة والحالية.
كان أحد أهداف بانون دعم اليمين الأوروبي الراديكالي للسيطرة على البرلمان الأوروبي في انتخابات 2019، ولكن هذا لم يتحقق
ليست خطورة فكر هذا الرجل في أنه يعادي ما يسمّيها "الفاشية الإسلامية"، وإنما في معاداته كل القيم الكونية التي قامت عليها الحضارة الغربية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون. وفي سقوطه المدوّي، اليوم، رسائل إلى كل من يتبنّى فكره الفاشي، وأكثر من ذلك إلى كل من أوهمهم بأنه يفكّر ويخدم من أجل استعادة "عظمة أميركا" في حين أن غرضه كان جمع المال بطرق احتيالية، لصرفه على حياته المترفة. وفي هذا ضربة كبيرة إلى صورة الرئيس ترامب الذي صنع من أفكار الرجل الفاشية شعاراتٍ لحملته الانتخابية، ولخطبه الرئاسية التي باع بها أوهاما كثيرة للأميركيين البسطاء، قبل أن يستيقظوا على حقيقة مرّة، مفادها بأن من كان يبيع لهم الوهم مجرّد مختلسٍ لا تهمه سوى مصلحته الخاصة. وخاتمة هذا الرجل نجدها في كتاب "نار وغضب" الذي فيه بوح كثير عن معتقداته، بعد أن طرده رئيسه من البيت الأبيض، وفيه يلخص فكره الشيطاني في عبارةٍ دالةٍ وقاسية، عندما يقول "أفضّل أن أحكم في الجحيم، على أن أكون خادماً في الجنة"، فليذهب هو وفكره وأتباعه إلى "الجحيم".