نهايةُ التفاوض على الحافة

23 يونيو 2015
لوحة للفنان التونسي رؤوف الكراي
+ الخط -
المستقبلُ في حقيبة

"بورتو أليغري" ليلاً.
أجثُو على حقيبتي
للمرّة الأخيرة.
هي حتّى الآن
لم تُطرد من لعبة الأدغال.
سأنامُ
وأتركُها فريسةً للصّقور
وبنات آوى الجائعات.
لستُ أنا من خطّط
لهذا المصير،
لأنّي لا أعرف جيداً
ما الفرق بين الأسود والأبيض.
لا أعرفُ
أنّ للنوايا خارطةً
مدفونةً في الجيوب.
وأن كلّ هذه الملابس،
المنشورة هنا بلا تاريخ،
ما هي إلاّ أحشاؤنا
التي لم تجفّ
كما ينبغي
على رمال السّافانا.

آلةُ الحقيقة

غبارٌ كثيفٌ ينزل
على آلة الحقيقة،
رغم أنها ليست مجرّد
آلةٍ لتقطير البنّ
في ورق ذابل.
عُشبٌ من حولها
كان يجفّ يوماً بعد آخر.
فلنقُل إنها صُمِّمت،
على نحو غامضٍ،
بلا مَهمّات.
إنّ السؤال والجواب
ليسا من اختصاصها.
فلنقُل
إنها كانت على حقّ،
مرّةً واحدة فقط،
لمّا أوحت للطيور:
نصفُ السّماء تحرّر
من الأزرق المعدنيّ،
ونصفُها الثاني ظلام.

اقرأ أيضاً: في المطر

صيفُ اسبارطة

الأبديةُ هي هكذا:
صيفٌ بلا مرايا.
ألهذا السبب،
امتهنتَ السّير دوماً
نحو القرى الموحشة؟
لم تكُن واثقاً
من هذه الصخرة،
ومع ذلك
شرعتَ في إيقاظ الموتى
ورميتَهم في البحر.
في زمنٍ آخر،
كان ذلك سيبدو تمريناً
لإرجاع المفقودات الصغيرة
إلى أبّولو.
لكنّك في شبهِ سطيحة
ولستَ على ضفاف اسبارطة.
لهذا لا تفكّر
في تصحيحِ أسماءِ المراكب
وهي مقلوبة على الشطّ.
اسكُن إلى بيتك الخرِب،
والعَب النّرد.


جزيرةُ اليَمبوس

بهلوانٌ يهمس لشاعر
ضيّع الخارطة
قبل أن يمشي في ألم:
هذه الأرضُ
تبلّلت بالدماء والبترول.
هذه الأجساد
تكدّست في مصعدٍ واحد،
وكلّ هذه الأرواح
نزحت في الساعة القصوى
إلى جزيرة اليمبوس.
تُرى من يدفعها هكذا
للانفلاتِ من الضرورة؟
إنّ أوهنَ البيوت
بيتٌ ثلاثيّ الأبعاد
على مرأى من العُميان،
وإنّ أخطرَ ما في السليقة
أن تسكن هي إليك
وأنت تقطع الأخدود
سيراً على الحبل.


دعوةُ الطوفان

دعَوتُك سراً
أيّها الطوفان
وأضرمتُ لك الجمرات،
رغم أنك الآن
على بعد آلاف الأميال،
ولا تبلو بلاءً حسناً
من أجلنا بالضرورة.
بعد قليل
ستُنهي عرضك الحيّ
على الشاطئ.
سينقطعُ البثّ
ويُظلم العالم.
وعندما يرجع لثوانٍ،
سيطلّ علينا الإسكندر الأكبر
من الشّاشات
ويتلو خطاباً سريعاً
يدعو فيه الجميع إلى الهدوء.
هي ثوانٍ فقط
تكفي لأفتح مظلّةً في الشّمس
وأطوّح بنظّارتي السوداء من النافذة،
لكنها لن تكفي
لإخفاء حديقةٍ بالكامل.
سأجلسُ إذن في انتظار
أن يصعد جاري العجوز
من الكهف
ليثبّت الكراسي في مواقعها،
ويُعلن نهايةَ التّفاوض
على الحافة.

الزهور تتحدّث الإسبانية

الزهور تتحدّث الإسبانية. تعتذر لك وفي نيّتها أن ترميك من الشبّاك لتلتقط جمرة أخرى سقطت سهواً من الحافة. لن تعتذر بدورك لعمال البناء المرابطين أسفل النافذة منذ شهور. سوف تكفيهم جمرتك ليلة واحدة فقط. ذلك أن البرد لم يغادر، والربيع لم يبلغ الفطام بعد. وتحت هذه الأكواخ المركبة على عجل، سيكون عليهم انتظار اشتداد الحلكة ليتمدّدوا على أسرّة معبّأة بالكرتون والإسفنج والأسمال كيفما اتفق. لكن هذا كله لن ينفع في شيء. إذ مع انبلاج الصبح، سيشبّ حريق تحت السقف الذي يأوينا معاً، وعندها سيكون من الصعب أن تبقى جمرة هامدة تماماً، أو تنفي أنّك الفاعل.

تمرّ بك الساعات

تمرّ بك الساعات في ما تبقى من الليل. تمرّ من الآن فصاعداً كأنها موكب جنازات في طريقه إلى الميناء. تمرُّ العربة التي تحمل الصندوق المغطى بالورود والأدعية والرسائل والعناوين الخاطئة وعليه اسمكَ وتاريخُ ميلادكَ ورقم بطاقتك الوطنية. ثم تتقدّم جوقة الحيتان للتّحية على شرف الذكريات، وتجرّ معها إرثاً من الأسماء قبل أن تنسحب إلى القاع. لكن حين تطلق الأيائل سبع صيحات في آخر محطة، وتتقلّب الشهوات في وكرها على مشارف الصحراء، عليك أن لا تحزَن. أن لا تقنَط. بل انتظرْ دورك من جديد حتى تمرّ بك الساعات في ما تبقّى من الليل.


إبرةُ نيتشه

هذا الخيطُ لم يوصل أحداً بإبرة نيتشه. حاول أن تجرّب بنفسك وسترى. في البداية، قد يسبّب لك التواءً في المفاصل. لكنك ستتعوّد على الأمر. ومع توالي الأيام والشهور والسنين، سيأتي وقتٌ لن تسمع فيه زفيراً يصعد من غور الظلام، ولن ترى فيه أثراً لثلجٍ على الطّريق، وربّما لن تصل في الموعد إلى نهاية الجسر. وحتى لو وصلت في الموعد وأخذت بطرف الخيط، لن تحسّ إلّا بمبضَع اليقين ذاته يسرح ويلعب الهوكي تحت الجلد.

نافذةٌ شبهُ مغلقةٍ

نافذةٌ شبهُ مغلقة، ومع ذلك أسرعتُ إلى إقفالها على مضض. هل كان اعترافاً متأخرّاً لأثبت أنّ لديّ ما يكفي من الذكريات؟ نحن لم نلعب هذه اللّعبة منذ سقوط الجدار. لطالما فاجأتني الدقّة التي سجّلت بها كلّ هذا البوح، حتى إنها لم تترك بقعة دم واحدة على القميص. سجّلت كل شيء بما فيه الأخبار السّيئة التي يُعاد بثّها بعد منتصف الليل. تلك التي تغطّي الأبواب والنوافذ والمرايا وتهزّ الأثاث من مكانه، دون أن تخدش صمت جذور الأشجار الميّتة.

الخنزير والمنارة

عينك لم تر من قبل هذه السفينة. قلتَ ستفعل بها مثلما فعل الآخرون. سترشدها إلى الخرائب السّحيقة التي تفيض من عيونها ماء مقدّس، وتهرب خلسة من الزمان. لكن السفينة اختفت وراء الجبل، وأنت لم تحرّك ساكناً. كنتَ خائفاً ومذهولاً من صمت المروج، ومن ظلّ شجرة الأرز الكاذب الذي يؤوي الخنازير، ولم تصدّق أنك، بعين واحدة فقط، كنتَ قادراً أن تنزل البحر لتفكّ سنّارة علِقت سهواً بشِباك صيّادٍ أعمى.

(شاعر مغربي)
المساهمون