نمر النمر: حكم إعدام سياسي

21 أكتوبر 2014
وصفت منظمة العفو الدوليّة المحاكمة بالمروّعة (محمد حويس/فرانس برس)
+ الخط -


من البقيع إلى العوامية

وُلد نمر باقر النمر عام 1960، في العوامية، إحدى قرى محافظة القطيف في المنطقة الشرقية بالسعودية. هاجر إلى إيران بعد الثورة الإسلاميّة، العام 1979، طلباً للعلم بعدما أنهى دراسته النظاميّة حتى الثانويّة في العوامية، والتحق بحوزة الإمام القائم العلميّة، وكان قد تتلمذ على يد السيد محمد تقي المدرسي، ثم انتقل إلى سورية. وكان مع انشغاله في طلب العلم، يتميّز عن أقرانه بالنقاش والمتابعة السياسيّة، إلى أن عاد للمملكة عام 1994، على إثر الصلح الذي أقامته الحكومة السعودية مع المعارضة الشيعيّة، ومستفيداً من العفو العام الذي أطلقه الملك فهد. لم تكن علاقة النمر مع الحكومة السعوديّة جيّدة لوقت طويل، وقد حصل بينه وبينها العديد من الحوادث والاستدعاءات وتوقيع التعهّدات، وذلك جراء مطالباته التي كانت في مجملها دينية ذلك الوقت، وقبل التطورات المتلاحقة في مسيرته، كمثل إيقافه في العام 2003 لإقامته الصلاة في "ساحة كربلاء"، في بلدة العوامية، وتمّ الطلب منه التوقف عن ذلك، وكذلك في العام 2004 حين نادى بضرورة إحياء ذكرى هدم القباب وازالة العلامات من على قبور الأئمة والصحابة وزوجات الرسول في البقيع، ودعواته المتكررة لإقامة مهرجان حول ذلك.


ذاع صيت النمر في الداخل السعودي، عقب أحداث البقيع عام 2009. في آواخر فبراير/ شباط من العام نفسه، وخلال إجازة منتصف العام الدراسيّة، احتشد جموع من الزوار الشيعة أمام فرع "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، في المدينة المنورة عند "مقبرة البقيع"، محتجين على تصرّف أحد أعضائها، والذي يتهمونه بتصوير النساء الشيعيات بكاميرا فيديو أثناء ممارستهن طقوس الزيارة، والتي حصلت على أثرها مواجهات بين الحشود وأفراد من الهيئة، معززين بقوات الأمن ومكافحة الشغب، لتمتد تداعياتها حتى المنطقة الشرقيّة وبلدة العوامية خصوصاً، والتي صعد خلالها النمر على المنبر، ليخطب خطبته الشهيرة حينذاك، وقال فيها: "قد لا أنتهي من كلمتي إلا وأنا في السجن أو تحت التراب، لكنّ هذه الدنيا صراع بين الحق والباطل. بأم أعيننا شاهدنا قوات الشغب تضرب نساءنا وأطفالنا. هذه أعراضنا، روحنا نقدّمها ولا نقبل أن يُعتدى على نسائنا. رفض الظلم من التشيُّع. السلطة السياسيّة تسلب الأمن، ثم تريدنا أن نسكت. كرامتنا أغلى من حياتنا، وحياتنا مربوطة بكرامتنا. مَن قام بالعمل هو السلطة السياسيّة، وليست السلطة الدينيّة. السلطة الدينيّة ليست إلا أداة. باحة الحرم كلّها كاميرات، لو أرادوا الحقيقة. أنا حذّرت السلطة السياسيّة من قبل، وقلت لهم أنتم مَن يحرّك السلطة الدينيّة ضدّنا. لن نسكت، ولن نخاف". ومن هنا كانت البداية.

الانتفاضة الثانية
تأثراً بما حصل من ثورات في المنطقة العربية، خرج آلاف المتظاهرين في القطيف، في فبراير 2011، وهم يحملون العديد من المطالب، كالإفراج عن "المعتقلين المنسيين"، وهم التسعة المعتقلون، إثر تفجير الخُبر، شرقي السعودية، عام 1996، بعدما قضوا سنوات طويلة في السجن بدون محاكمات علنيّة أو توجيه تهم واضحة إليهم.
يعتبر المتظاهرون هذا الخروج بمثابة "انتفاضة ثانية"، في إشارة إلى الاحتجاجات "انتفاضة محرم الأولى"، التي خرجت في نوفمبر/ تشرين الثاني 1979، تأثراً بالثورة الإسلاميّة الإيرانيّة. في هذه التظاهرات والاحتجاجات، كان النمر رقماً كبيراً وأحد أهم المشجعين عليها من شيوخ الطائفة. ومن خلالها، ذاعت مقاطع مصوّرة لخطبه على منبر مسجد العوامية، حملت تأييداً واضحاً وصريحاً للتظاهرات، ونقداً شديد اللهجة وهجوماً على الحكومة السعودية وكيفيّة تعاملها مع التظاهرات التي شهدت العديد من المواجهات وسقط خلالها قتلى وجرحى، كما حصلت خلالها وحتى وقت قريب، حملات أمنيّة مكثّفة اعتُقل خلالها الكثير من شباب البلدة، وتصدّرت نشرات الأخبار والصحف المحليّة، قوائم تحمل صور مطلوبين منها.

بعد وفاة الأمير نايف بن عبد العزيز، وليّ العهد السعودي ووزير الداخلية، في يونيو/ حزيران 2012، شنّ النمر، في خطاب ألقاه، هجوماً لاذعاً، وبطريقة ساخرة غير مسبوقة، على الأمير المتوفى والدولة السعوديّة، لتستقبل حينها المواقع الالكترونيّة ومواقع التواصل الاجتماعي في المملكة خطابه بسيل كبير من ردود الأفعال، والتي وإن كانت تبدو لوهلة متباينة في الموقف من الخطاب بحدّ ذاته، لكنها تشترك جميعها في الذهول من جرأة الشيخ وقوته التي ظهرت خلال الخطبة. لم يظهر النمر في الخطبة فرحاً بوفاة الأمير نايف فقط، بل ايضاً انتقد وهاجم مَن يدعون إلى الترحّم عليه وعدم إظهار الفرح. وذكر "محاسن الموتى"، بقوله: "مَن يقتل أولادنا، ألا نفرح بموته؟ مَن يسجن أولادنا، ألا نفرح بموته؟ الذي يعيّشنا الرعب والخوف، ألا نفرح بموته؟ الحمد لله"، لتداهم بعدها بأيام قوات الأمن بلدة العوامية، وتعتقل النمر من سيارته، بعدما أصيب بأربع رصاصات في قدمه. وبحسب الرواية الرسمية، وقعت الحادثة نتيجة محاولة الشيخ الفرار، وهي الرواية التي ينفيها آخرون. وعادت حينها التظاهرات مجدداً، وبزخم أكبر، إلى شوارع القطيف، احتجاجاً على اعتقاله، فسقط قتيلان في يوم واحد، واستمرت المواجهات، وقُتل بعد أيام أحد رجال الأمن، وظلّت وتيرة التظاهرات تنخفض وترتفع بحسب الأحداث.

القتل تعزيراً
فوجئ الكثيرون، يوم الأربعاء الماضي، في الخامس عشر من الشهر الحالي، بنشر وكالة الانباء السعوديّة الرسمية، "واس"، خبراً عن إصدار المحكمة الجزائيّة المتخصّصة بالرياض، حكماً ابتدائياً يقضي بإدانة الشيخ نمر النمر، والحكم عليه بالقتل تعزيراً بعد ثبوت ارتكابه عدة جرائم، منها: "إعلانه عدم السمع والطاعة لولي أمر المسلمين في المملكة وعدم مبايعته له، والتحريض على ذلك، وتأييده لأحداث الشغب والتخريب في مقبرة البقيع، والتجريح في ولاة أمر المملكة وعلمائها، واعتقاده بعدم شرعيّة أنظمة المملكة وعدم التزامه بها وتحريض الآخرين على ذلك، والتدخّل في شؤون دول شقيقة ذات سيادة عبر التحريض من داخل المملكة، على ارتكاب جرائم إرهابية فيها، وإثارة الشغب".

عقب ذلك، أصدرت عائلة النمر بياناً نُشر على مواقع الانترنت، عبّرت فيه عن صدمتها من الحكم واعتبرته "سابقة خطيرة". وقالت إنّ "هذا الحكم سياسي بامتياز... وجّه فيه الادعاء العام تهماً غير صحيحة ولا ترقى إلى طلبه بإقامة حدّ الحرابة حتى في حال ثبوتها... تمنينا على أصحاب الفضيلة القضاة أن لا يكون الأصل لديهم تجريم مَن يقف أمامهم من الموقوفين لأنّ الأصل هو البراءة. وتمنينا أن يتمعّنوا مذكرة الردّ بدقّة ورويّة وتأمّل وتجرّد من إملاءات الفضاء الخارجي، من تعبئة واحتقان واصطفاف طائفي لا أخلاقي تعيشه بلادنا وأمتنا... تمنّينا عليهم لو تمعّنوا قليلاً في المنهج السلمي واللاعنفي للشيخ النمر والرافض دائماً وأبداً، بكل وضوح وتجلّي استخدام العنف أو السلاح وحتّى الحجارة في مواجهة الرصاص...".


بعد ذلك، توالت ردود الأفعال على قرار المحكمة السعوديّة بإعدام النمر. في القطيف، خرج المئات في الشوارع مندّدين بالحكم عليه. كذلك حصل إطلاق نار على أنبوب نفطي في بلدة العوامية، أحدث أضراراً بسيطة، لكنّ الحادث قد يكون بداية سلسلة من الأعمال الانتقاميّة، خصوصاً إذا تمّ تنفيذ الحكم. أما على مواقع التواصل الاجتماعي، فسُجّلت عشرات الآلاف من المشاركات، في هاشتاغ "#القتل_تعزيرا_لنمر_النمر"، في موقع "تويتر". تباينت ردود الأفعال، بين شجب واستنكار وأخرى مؤيدة. على سبيل المثال، يقول المعارض السعودي في لندن، الدكتور حمزة الحسن، في تغريدة له: "لو كان الشيخ النمر تكفيرياً أو عنفياً، لهان الأمر؛ لكنكم تعلمون قولته (زئير الكلمة أقوى من أزيز الرصاص)؛ وتعلمون دفاعه عن الجميع بلا طائفيّة". وفي الوقت نفسه، يكتب الدكتور إبراهيم الفارس، وهو رجل دين سلفي سعودي، يشغل منصب أستاذ مساعد في جامعة الملك سعود، على الموقع ذاته: "الحكم بـ #القتل_تعزيرا_لنمر_النمر سنوات وهو يثير الفتن، ويؤلّب روافض القطيف، ويلعن الصحابة، ويسبّ السلف، مع ولاء كامل لإيران، لعلّه يصلب بعد قتله".

"العفو الدولية": إلغاء الحكم
في موازاة ذلك، طالبت منظمة العفو الدولية بإلغاء حكم الإعدام فوراً، ووصفت المحاكمة بـ"المروعة". وعلّق نائب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة، سعيد بومدوحة، بالقول إنّ "حكم الإعدام الصادر بحق الشيخ نمر النمر، يأتي ضمن حملة تشنّها السلطات في السعودية بهدف سحق المعارضة، بما في ذلك المدافعون عن حقوق أقليّة الشيعة في المملكة، كما استغرب اعتقال شقيقه، رجل الأعمال السعودي، محمد باقر النمر". وأشار إلى أنّ "الحكم الصادم الذي صدر بإعدام الشيخ نمر متبوعاً بتوقيف شقيقه في المحكمة، يُبرهن على المدى الذي ذهبت السلطات السعودية إليه، في معرض سعيها لوقف الناشطين الشيعة عن الدفاع عن حقوقهم". ولا تزال الأسباب الكامنة وراء اعتقال محمد النمر ومكان وجوده غير معروفة، على الرغم من الاعتقاد بأنّ توقيفه جاء عقب نشره تغريدة بشأن صدور الحكم بإعدام شقيقه.

وأصدرت جمعية الوفاق الوطني الإسلامية، وهي تنظيم سياسي إسلامي شيعي في البحرين، بياناً حذّرت فيه من تداعيات الحكم الصادر بحق النمر، والتي "قد تزيد من تعقيد الأمور وتصب الزيت على النار"، داعية السلطات في السعودية إلى الإفراج عنه. وذكّرت بتمسك النمر "بالدعوة إلى السلميّة في التحرك الشعبي، وهو من الشخصيات الدينيّة والبارزة وممّن تصدّروا المطالبة بالحقوق السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة التي تكفلها الشرعة الدوليّة والحقّ الإنساني، وعبّر عن رأيه بالكلمة، والكلمة لا تواجه بالاعتقالات وإصدار أحكام الاعدام". 

وفي السياق ذاته، نقلت وكالة أنباء "مهر" الإيرانية، عن نائب وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، قوله إنّه "اذا تبيّنت صحّة المعلومات التي تحدثت عن إصدار محكمة سعوديّة حكماً بالاعدام على الشيخ نمر، فهذا سيهين بالتأكيد مشاعر المسلمين ويثير ردود فعل دوليّة"، معتبراً أنّ قرارات مماثلة "لا تساهم في عودة السلام والهدوء الى المنطقة". وفي موازاة مطالبته بالعودة عن الحكم، حذّر المرجع الديني، ناصر مكارم شيرازي، في إيران، سلطات المملكة من إعدام النمر. ورأى أنّ "مثل هذه الممارسات التعسّفية تجرح مشاعر الشيعة في العالم وستكون لها تداعيات سيئة.. على الحكام السعوديين".

ولطالما تعاملت السعوديّة مع الملف الشيعي في الداخل بوصفه "ملفاً إقليمياً"، حين سادت فترة الهدوء والانفتاح، وتحسّنت العلاقات السعوديّة ـ الإيرانيّة، على أعقاب زيارة الرئيس السابق محمد خاتمي عام 1999 للمملكة، وتوالت الزيارات المتبادلة بين البلدين، والتي تُوّجت بتوقيع اتفاقية أمنيّة مشتركة في طهران في أبريل/ نيسان 2001، انعكس ذلك على العلاقة بين الحكومة والطائفة، وازدهرت العلاقة في وقت ما سُمي "بالحوار الوطني"، والذي اشتهر من خلاله الشيخ حسن الصفار، وكان ممثلاً للطائفة في هذه الملتقيات. في الوقت الحالي، يتساءل كثيرون عمّا إذا كان يُمكن اعتبار الحكم الصادر على الشيخ النمر، معبّراً عن التوتر الجديد والحاصل في العلاقات السعودية ـ الإيرانية. لم يمضِ على لقاء وزير الخارجيّة السعودي الأمير سعود الفيصل، بنظيره الإيراني محمد جواد ظريف، في نيويورك في 22 سبتمبر/ أيلول الماضي، على هامش اجتماع الأمم المتحدة، ثلاثة أسابيع، حين تبادلا الكلمات المنمّقة، حتى توتّرت العلاقة مجدداً. وبدا ذلك واضحاً من خلال تصريح الفيصل قبل أيام، خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الألماني، قال فيه إنّ "كثيراً من النزاعات في المنطقة تكون إيران فيها جزءاً من المشكلة، وليست جزءاً من الحل".
ويعزو البعض التوتّر الحاصل في العلاقات السعوديّة ـ الإيرانيّة، بعد التوقّعات بالانفتاح في العلاقات، إلى ما يجري في اليمن. كل هذا يقال في ظلّ غياب عامل داخلي ضاغط يفسّر قسوة الحكم، خصوصاً مع انخفاض وتيرة الاحتجاجات في المنطقة الشرقية، وتراجعها بعد الحملات الأمنيّة المتوالية، غير أنّ هناك مَن يفسر الأمر على أنه يأتي ضمن سلسلة إجراءات عقابيّة لكلّ مَن تجرأ على نقد الدولة والمطالبة بالتغيير بعد الربيع العربي، وقد طالت عدداً من الناشطين الإصلاحيين بأحكام سجنٍ قاسية، ومن الطبيعي أن يكون نصيب النمر الإعدام، بغضّ النظر عن انتمائه الطائفي، إذ وصل في خطابه ضد الدولة ورموزها إلى ما لا يُحتمل أو يُغفر.