حدث ما لم يتوقعه أحد، وتحول النفط من نعمة ورمز للثراء الفاحش إلى نقمة ورمز للتقشف الشديد وترشيد الإنفاق وزيادة الأسعار، وفقد الجميع الأمل في تعافي أسعار النفط في الأسواق العالمية في المستقبل القريب، وبات بعضهم يتحدث عن سعر 20 دولاراً للبرميل، وهو ما يعني خسائر فادحة للدول المنتجة تقدر بمئات المليارات من الدولارات.
إذ إن هذا الرقم قد لا يغطي تكلفة الحفر والتنقيب والاستخراج والنقل وحصة الشركات الأجنبية، ولا أتحدث هنا عن تكلفة التكرير وتحويل النفط الخام الأسود إلى منتجات ومشتقات بترولية يتم استخدامها في كل مناحي حياتنا بما فيها الغذاء والدواء والملبس والإنارة.
وبدلاً من أن ينعش النفط خزائن وموازنات واقتصاديات الدول المنتجة باعتبار أنه سلعة غير عالية التكاليف، بات يمثل حالياً عبئاً شديداً على هذه الدول، وبات الفقراء وحدهم من يواجه العاصفة الناجمة عن هذا العبء، وباتوا هم من يسددون فاتورة تهاوي أسعار النفط دون غيرهم من قناصي الصفقات وسماسرة البورصات وناهبي أموال الشعوب.
في السعودية مثلاً تم في بداية الأسبوع الجاري تحميل الجزء الأكبر من فاتورة العجز القياسي في ميزانية 2016 البالغ 87.9 مليار دولار والناجم عن انهيار أسعار النفط للفقراء عبر زيادة أسعار الوقود بكل أنواعه مثل البنزين والكيروسين والديزل والغاز، كما جرت زيادة أسعار الكهرباء والمياه والضرائب على بعض أنواع السلع مثل التبغ والمشروبات الخفيفة، وهي كلها أمور تتعلق بالفقراء.
ولن تكتفي المملكة بهذه الخطوات التقشفية، بل ستلجأ لخطوات أخرى منها فرض ضرائب على المواطنين مثل ضريبة القيمة المضافة وفرض رسوم على الأراضي الفضاء الواقعة وسط العمران وغير المستغلة، إضافة للاقتراض الخارجي وتسييل بعض الاستثمارات والأصول المالية والسحب من الاحتياطي، وهو ما يعني في النهاية مزيداً من الأعباء للمواطن.
السيناريو يتكرر في دول عربية أخرى منتجة للنفط في مقدمتها العراق والجزائر وليبيا، فعلى الرغم من أن الدول الثلاث تصنف على أنها من كبرى الدول المنتجة للنفط في المنطقة، إلا أن اقتصاداتها وموازنتها العامة ومواطنيها يعانون الفقر.
بل إن دولة مثل العراق تحول أغلب سكانها، خصوصاً متوسطي الدخل، إلى الفقر المدقع، ولن أتحدث عن مستوى الخدمات وانهيار البنية التحتية في الجزائر التي كانت تمتلك حتى شهور قليلة مضت احتياطيات من النقد الأجنبي تقارب الـ 200 مليار دولار، أما الآن فإن البعض يتحدث عن نفاد ما تبقى من هذا الاحتياطي خلال سنوات قليلة، إذا ما استمرت أسعار النفط في التهاوي.
كما باتت دول خليجية منتجة للنفط، مثل قطر والبحرين والكويت، تعاني هي الأخرى من عجز في موازنة العام القادم، صحيح أن عجز الدول الثلاث لا يقارن بعجز دول أخرى مثل السعودية والعراق، ولكن مجرد دخول هذه الدول دائرة العجز المالي يعني دخولها في إجراءات تتعلق بترشيد الإنفاق العام وتأجيل تنفيذ بعض المشروعات الكبرى، وربما الاقتراض الخارجي.
من المبكر أن نقول إن عصر النفط قد ولّى، فلا يزال الذهب الأسود هو الوقود الرئيسي والمحرك للصناعات الكبرى، خصوصا المتعلقة بصناعات استراتيجية مثل الملابس والإسمنت والأسمدة والحديد والألمونيوم وغيرها، كما يتم استخدامه على نطاق واسع في إنتاج الطاقة الكهربائية وتشغيل المصانع وتحريك وسائل النقل وتشغيل المحركات.
لكن الخطوات التي قامت بها السعودية لمعالجة العجز القياسي في ميزانية 2016 تبعث برسالة واضحة وصريحة لكل أسواق العالم تقول إن الرهان على ارتفاع أسعار النفط في المستقبل المنظور خاسر، وأن المواطن سيتحمل جزءاً من تغطية تكلفة عجز ليس له يد فيه.
يدعم الرسالة السعودية دخول الولايات المتحدة عصر تصدير النفط، وإصرار عدد من الدول على زيادة إنتاجها بغض النظر عن حاجة الأسواق، ومن بين هذه الدول روسيا وإيران، إضافة لتراجع معدل نمو الاقتصاد العالمي والأزمات التي يعاني منها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأقصد به هنا الاقتصاد الصيني الذي يمر بمرحلة حرجة قد تؤثر سلباً على كل الاقتصاديات الدولية.
اقرأ أيضا: مأزق صانع القرار السعودي