درست في مدرسة صلاح الدين، في وسط الدوحة بحدودها القديمة المعروفة، كان يديرها المربي الفاضل والعالم الشيخ عبد الله الأنصاري رحمه الله ومعه نخبة من المدرسين الذين ذهب أغلبهم إلى جوار ربه.
دخلت هذه المدرسة طفلاً مع حرب 67، لم أفهم حينها لماذا انهزم العرب أمام الصهاينة، لم يسعفني عقل الطفل الذي كنته بإيجاد سبب معقول لهذه الهزيمة التي جعلت كل كبار السن ومن ضمنهم والدي رحمه الله في حزن لبضعة أيام، لم أفهم شيئاً أبداً، فهو شأن الكبار كما كنت أظن حينها.
لم يبخل علي والدي بالقصص التي تناسب عمري، كنت أحب القصص التي فيها بطل يحارب المجرمين ثم ينتصر عليهم، أقرأها وأنا أتخيل أنني البطل والصهاينة هم المجرمون. كان عقلي مشاركاً تلك الحرب، يحب خوض معاركها وانتصاراتها الوهمية التي ترضيه وتأخذ بثأره. نمّى والدي تلك الهواية فيّ، فكان يحضر لي من القصص المرسومة وغيرها ويسألني إن كنت قد قرأتها ويسألني عنها. كنت أحب هذا الامتحان، فلم تكن شخصيات القصص وأحداثها لتغيب عن مخيلتي وكانت الطريقة السهلة المثلى للحصول على رضى والدي ومكافأته.
أخذني يوماً ليعرفني على أمين المكتبة في مدرستنا، كان شيخاً وقوراً نحيفاً طويلاً ذا صوت هادئ ونظرة حانية ولحية بيضاء صغيرة في طرف ذقنه يشذبها دائماً. لم تكن نظرته تلك لتصيبني بالهلع كما تفعل نظرات بقية المدرسين، بل كان يمثل الأب الحنون، ومازلت أذكره يتحدث معي ومع غيري من الطلبة وكأننا كبار، يسألنا عن الذي قرأناه من القصص وما الذي استفدناه منها.
خلال السنوات القصيرة ساهم والدي وهذا الرجل الطيب في تنمية حبي للقراءة، جعلاني أعشقها، أقرأ ما تقع عليه يدي من كتب، حتى أصبحت جزءاً من حياتي، وثقت بها ووثقت بي، فباحت لي بأسرارها.
ذهبت للدراسة في جامعة أميركية تقع في شمال ولاية نيويورك، كان يتوجب علي النزول في مدينة أولبني ثم استقل الحافلة التي تصل بعد ثلاث ساعات الى المدينة الجامعية الصغيرة، بوتسدام، حيث جامعتي، كلاركسون. كانت مدينة صغيرة يعمل كل سكانها إما في التجارة أو في الجامعة أو مزارعين في الحقول الكبيرة والشاسعة حول الجامعة.
كانت مباني الجامعة متناثرة في الغابات الصنوبرية الكثيفة التي تزين المدينة، أحلاها وأجملها في ذلك الحين كان مبنى المكتبة الذي تحيط به حدائق جميلة جداً، يعمل الطلبة على قص أعشابها و تشذيب شجيراتها، وكانت هي مكاني المفضل للدراسة.
في هذه المكتبة بدأت مرحلة البحث الحقيقي. أحببت ذلك المكان، وبقي في ذاكرتي كما بقيت مكتبة مدرسة صلاح الدين، هي الأمكنة التي أشعر فيها بالراحة والهدوء وحيث أنسى نفسي تائهاً في صفحات الكتب منقباً عن شيء أبحث عنه.
التنقيب ذاك قادني منذ عدة سنوات الى مكتبة في وسط البلد في مدينة عمان، ووقعت يدي على كتاب مترجم باسم ساحل القراصنة، جذبني اسمه وعنوانه وثم كتاب آخر باسم رحلة الى الجزيرة العربية ثم كتاب تاريخ الخليج، وهي كلها كتب مترجمة. دخلت بعدها في مرحلة البحث عن معلومات مشتتة، متناثرة عن تاريخ منطقة الخليج في بداية القرن التاسع عشر، قررت بعدها أن أكتب رواية عن كل الذي قرأته فظهرت رواية القرصان.
لم أنتظر طويلاً بعدها حتى قررت أن أكتب رواية الشراع المقدس، التي أخذت مني سنتين ونصف من البحث والكتابة، متحدثة عن الغزو البرتغالي والخريطة السياسية للمنطقة خلال نهاية القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر.
إن كنت قد ارتكتب خطأ في هاتين الروايتين فهو أنني لم أكتب إهداء في مقدمتيهما، إلى من كانا السبب بإيقاعي في شغف القراءة، والدي وذلك الشيخ الوقور أمين المكتبة في مدرسة صلاح الدين.
(كاتب وروائي قطري)
دخلت هذه المدرسة طفلاً مع حرب 67، لم أفهم حينها لماذا انهزم العرب أمام الصهاينة، لم يسعفني عقل الطفل الذي كنته بإيجاد سبب معقول لهذه الهزيمة التي جعلت كل كبار السن ومن ضمنهم والدي رحمه الله في حزن لبضعة أيام، لم أفهم شيئاً أبداً، فهو شأن الكبار كما كنت أظن حينها.
لم يبخل علي والدي بالقصص التي تناسب عمري، كنت أحب القصص التي فيها بطل يحارب المجرمين ثم ينتصر عليهم، أقرأها وأنا أتخيل أنني البطل والصهاينة هم المجرمون. كان عقلي مشاركاً تلك الحرب، يحب خوض معاركها وانتصاراتها الوهمية التي ترضيه وتأخذ بثأره. نمّى والدي تلك الهواية فيّ، فكان يحضر لي من القصص المرسومة وغيرها ويسألني إن كنت قد قرأتها ويسألني عنها. كنت أحب هذا الامتحان، فلم تكن شخصيات القصص وأحداثها لتغيب عن مخيلتي وكانت الطريقة السهلة المثلى للحصول على رضى والدي ومكافأته.
أخذني يوماً ليعرفني على أمين المكتبة في مدرستنا، كان شيخاً وقوراً نحيفاً طويلاً ذا صوت هادئ ونظرة حانية ولحية بيضاء صغيرة في طرف ذقنه يشذبها دائماً. لم تكن نظرته تلك لتصيبني بالهلع كما تفعل نظرات بقية المدرسين، بل كان يمثل الأب الحنون، ومازلت أذكره يتحدث معي ومع غيري من الطلبة وكأننا كبار، يسألنا عن الذي قرأناه من القصص وما الذي استفدناه منها.
خلال السنوات القصيرة ساهم والدي وهذا الرجل الطيب في تنمية حبي للقراءة، جعلاني أعشقها، أقرأ ما تقع عليه يدي من كتب، حتى أصبحت جزءاً من حياتي، وثقت بها ووثقت بي، فباحت لي بأسرارها.
ذهبت للدراسة في جامعة أميركية تقع في شمال ولاية نيويورك، كان يتوجب علي النزول في مدينة أولبني ثم استقل الحافلة التي تصل بعد ثلاث ساعات الى المدينة الجامعية الصغيرة، بوتسدام، حيث جامعتي، كلاركسون. كانت مدينة صغيرة يعمل كل سكانها إما في التجارة أو في الجامعة أو مزارعين في الحقول الكبيرة والشاسعة حول الجامعة.
كانت مباني الجامعة متناثرة في الغابات الصنوبرية الكثيفة التي تزين المدينة، أحلاها وأجملها في ذلك الحين كان مبنى المكتبة الذي تحيط به حدائق جميلة جداً، يعمل الطلبة على قص أعشابها و تشذيب شجيراتها، وكانت هي مكاني المفضل للدراسة.
في هذه المكتبة بدأت مرحلة البحث الحقيقي. أحببت ذلك المكان، وبقي في ذاكرتي كما بقيت مكتبة مدرسة صلاح الدين، هي الأمكنة التي أشعر فيها بالراحة والهدوء وحيث أنسى نفسي تائهاً في صفحات الكتب منقباً عن شيء أبحث عنه.
التنقيب ذاك قادني منذ عدة سنوات الى مكتبة في وسط البلد في مدينة عمان، ووقعت يدي على كتاب مترجم باسم ساحل القراصنة، جذبني اسمه وعنوانه وثم كتاب آخر باسم رحلة الى الجزيرة العربية ثم كتاب تاريخ الخليج، وهي كلها كتب مترجمة. دخلت بعدها في مرحلة البحث عن معلومات مشتتة، متناثرة عن تاريخ منطقة الخليج في بداية القرن التاسع عشر، قررت بعدها أن أكتب رواية عن كل الذي قرأته فظهرت رواية القرصان.
لم أنتظر طويلاً بعدها حتى قررت أن أكتب رواية الشراع المقدس، التي أخذت مني سنتين ونصف من البحث والكتابة، متحدثة عن الغزو البرتغالي والخريطة السياسية للمنطقة خلال نهاية القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر.
إن كنت قد ارتكتب خطأ في هاتين الروايتين فهو أنني لم أكتب إهداء في مقدمتيهما، إلى من كانا السبب بإيقاعي في شغف القراءة، والدي وذلك الشيخ الوقور أمين المكتبة في مدرسة صلاح الدين.
(كاتب وروائي قطري)