"مصر تحارب الإرهاب"، شعار رفعه النظام المصري الحالي وقد فرضه على نفسه وعلى مؤسسات الدولة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، منذ اللحظة الأولى لتولي وزير الدفاع سابقاً عبد الفتاح السيسي سدّة الحكم، بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس السابق محمد مرسي في الثالث من يوليو/ تموز 2013.
راح النظام يتعامل مع مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والنقابات على أنّها مجبَرة وخاضعة له، بالتالي فإنّ أي خروج عن النصّ الموضوع من قبل النظام يُعدّ تخلياً عن مصر في محاربتها للإرهاب. لكنّ الانتهاكات المتكررة للحريات العامة والخاصة والأزمات التي طاولت النقابات المهنية والعمالية، أدّت إلى حالة صدام لا تلبث أن تهدأ حتى تشتعل مرّة أخرى بصدام جديد.
للتأميم وجوه كثيرة
تنصّ المادة 77 من الدستور المصري 2014 على أن "ينظم القانون إنشاء النقابات المهنية وإدارتها على أساس ديمقراطي. ولا تنشأ لتنظيم المهنة سوى نقابة واحدة، ولا يجوز فرض الحراسة عليها أو تدخل الجهات الإدارية في شؤونها، كما لا يجوز حل مجالس إدارتها إلا بحكم قضائي". لكنّ الواقع الفعلي يشير إلى أنّ للنظام رأياً آخر في هذه المادة، إذ صدرت أحكام قضائية عدّة من محكمة الأمور المستعجلة، تقضي بفرض الحراسة على عدد من النقابات المهنية المصرية.
في مارس/ آذار 2014، صدر حكم بفرض الحراسة على نقابة المعلمين المصرية. جرى تأييد الحكم في يونيو/ حزيران من العام نفسه. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، صدر حكم بعدم الاختصاص في تغيير الحارس القضائي، أي استمرار الحراسة القضائية.
الأمر نفسه تكرر مع نقابة الصيادلة، إذ صدر حكم في أكتوبر/ تشرين الأول 2014 بفرض الحراسة عليها، ثم حكم آخر في يناير/ كانون الثاني 2015 بإلغاء الحراسة، قبل تأييد فرض الحراسة من جديد في أكتوبر/ تشرين الأول 2015.
ولم تسلم نقابة المهندسين من السيناريو نفسه. في يوليو/ تموز 2015 صدر حكم بعدم الاختصاص في قضية فرض الحراسة. وفي فبراير/ شباط 2016، رفضت محكمة مصرية الاستئناف المُطالِب بفرض الحراسة على نقابة المهندسين، وتمكنت النقابة من إجراء أول انتخابات تجديد نصفي لها بدون حراسة قضائية منذ 25 عاماً.
تأتي هذه الأحكام القضائية، في الوقت الذي لم ينفذ فيه حكم صادر عن محكمة القضاء الإداري المصرية، في يونيو/ حزيران 2015 أكدت فيه بطلان فرض الحراسة على أي نقابة في مصر.
يقول باحث متخصص في الشأن النقابي والقانوني في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، إنّ "أزمة فرض الحراسة بدأت في تسعينيات القرن الماضي، عندما اشترط قانون النقابات العمالية نسبة 50% زائد واحد لعقد الجمعيات العمومية للنقابات التي تعاني قصوراً في الحشد. وقد أدّى ذلك إلى اتخاذ فشل النقابات في الحشد، كذريعة لفرض الحراسة على ثماني نقابات كانت تمثل نحو ثلث النقابات المهنية في مصر".
يضيف الباحث، الذي تحفّظ عن ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، أنّ "الحارس القضائي دخل النقابات أيضاً بذريعة سيطرة الجماعات الإسلامية على العمل النقابي، وتفريغ النقابات من التيارات الأخرى وبدواعي انشغال النقابات بالعمل السياسي عن النقابي. وهذا ما أفقدها جزءاً كبيراً من نشاطها وطبيعة عملها، وأصبحت تؤدي بعض التسهيلات الخدمية فقط.
يُذكر أنّه عقب ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، أعلنت نقابات مهنية عدّة رفضها لقانون النقابات وتمسكها بالقوانين الخاصة لكل نقابة على حدة، ثمّ أعادت محكمة الأمور المستعجلة الأوضاع إلى سابق عهدها بعد الأحكام الصادرة بفرض الحراسة على عدد من النقابات المصرية.
كرة الثلج
خلال العامين الماضيين، نشبت أزمات عدّة أحيلت بمعظمها إلى ساحات القضاء، بين نقابات مهنية ووزارة الداخلية المصرية، على خلفية ممارسة الأخيرة انتهاكات ضدّ أعضاء تلك النقابات الذين دفعوا فيها الثمن حياتهم أو حريتهم أو كرامتهم.
البداية كانت في نقابة المحامين في فبراير/ شباط 2015، عندما توفي المحامي كريم حمدي متأثراً بالتعذيب الذي تلقاه على يد ضابطَي أمن وطني في قسم شرطة المطرية (شرق القاهرة)، بعد 48 ساعة من القبض عليه. وقد أصدرت محكمة مصرية حكماً على الضابطين المتهمَين بتعذيب حمدي وقتله، بالسجن خمس سنوات.
وفي يونيو/ حزيران 2015، اعتدى نائب مأمور قسم فارسكور في محافظة دمياط (شمال)، بالحذاء الميري على أحد المحامين وأصابه بجرح قطعي في الوجه والرأس وارتجاج في المخّ. حينها، هبّ المحامون وباشروا التصعيد، حتى تدخّل السيسي في الأزمة وأنهاها. وقد قال في أحد لقاءاته: "أنا بقول للمحامين كلهم حقكم عليّ، وأنا بعتذر لكم يافندم، وبقول لكل أجهزة الدولة من فضلكم، لازم نخلّي بالنا من كل حاجة، رغم الظروف اللي إحنا فيها"، ملوّحاً من جديد بـ"الحرب على الإرهاب".
من نقابة المحامين إلى نقابة الأطباء، تحديداً في الثامن من يناير/ كانون الثاني 2016، عندما اعتدى ثمانية من أمناء الشرطة على أطباء الطوارئ في مستشفى المطرية التعليمي. وهو ما دعا النقابة إلى تنظيم جمعية عمومية طارئة حاشدة شارك فيها آلاف الأطباء في 12 فبراير/ شباط 2016، اعتراضاً على إهانة الأطباء ومطالبة بإقالة وزير الصحة وإحالة المعتدين إلى المحاكمة العاجلة. لم يُحَل المعتدون على الأطباء إلى المحاكمة الجنائية إلا بعد ضغط وتصعيد متواصلين من قبل نقابة الأطباء.
بعد ذلك، انتقلت انتهاكات وزارة الداخلية المصرية إلى "بلاط صاحبة الجلالة" نقابة الصحافيين، بعدما اقتحمت قوة من الشرطة مقرّ النقابة في الأوّل من مايو/ أيار 2016 واعتقلت الصحافيَّين عمرو بدر (رئيس تحرير بوابة "يناير") ومحمود السقا (صحافي في الموقع نفسه). أتى الاعتقال بناءً على قرار بضبطهما وإحضارهما على خلفيّة مواقفهما السياسية الرافضة لتنازل مصر عن جزيرتَي تيران وصنافير لصالح السعودية، بموجب اتفاقية ترسيم الحدود الأخيرة بين البلدين في إبريل/ نيسان 2016.
جاءت واقعة اقتحام قوات الشرطة للنقابة، مخالفة صريحة لقانون نقابة الصحافيين رقم 76 لسنة 1970، التي تنصّ المادة 70 منه على أنّه "لا يجوز تفتيش مقار نقابة الصحافيين ونقاباتها الفرعية أو وضع أختام عليها إلا بموافقة أحد أعضاء النيابة العامة وبحضور نقيب الصحافيين أو النقابة الفرعية أو من يمثلها". وقد دعا مجلس النقابة إلى اجتماع طارئ للجمعية العمومية، شارك فيه آلاف الصحافيين ورفعوا مطالبهم. أبرز تلك المطالب اعتذار من الرئاسة، وإقالة وزير الداخلية، والإفراج عن الصحافيَّين المعتقلين، وغيرها.
اقتحام نقابة الصحافيين بالنسبة إلى "دار الخدمات النقابية والعمالية" (منظمة مجتمع مدني مصرية)، هو خطوة على طريق العصف بالحقوق والحريات. وقد جاء في تقرير لها تحت عنوان "الحريات النقابة.. العودة لنقطة الصفر"، أنّ "نقابة الصحافيين شهدت واقعة غير مسبوقة تخطّت كل صور الانتهاكات والتجاوزات، إذ تم اقتحام النقابة من قبل أجهزة الأمن. لم يجرؤ أحد من قبل على اقتحام مقرات النقابات المهنية وانتهاك حرمتها، ومهما كانت الحجج والأسانيد التي تساق لتبرير هذا الاعتداء الصارخ، فما زال المجتمع المصري كله يرى فداحته". أضاف التقرير أنّ "هذه هي نقابة الصحافيين الذين لم تعد تتحمل الساحة كلماتهم وعدسات كاميراتهم، والتي تؤجّر قاعاتها لأنشطة وفعاليات مُنعت الفنادق والقاعات من استضافتها، ولأنّ سلالم هذا المبنى تحتضن المحتجين والمطالبين بحقوقهم على تنوعهم واختلافهم - رغم أنّ أجهزة الأمن ذاتها تطلب إليهم تنظيم تظاهراتهم على هذه السلالم بدلاً من أي مكان آخر يطلبون التصريح بتنظيم فاعلياتهم فيه -، فكان هذا الاقتحام خطوة أخرى على طريق العصف بالحريات والحقوق".
في القمع سواء
بمنطق "المساواة في الظلم عدل"، ساوى النظام المصري بين النقابات المهنية والعمالية في التضييق والخنق والقمع. وقد مارس، بحسب الناشطة العمالية والنقابية وعضو حملة "نحو قانون عادل للعمل"، هدى كامل، "هجوما ممنهجاً ضدّ أي تنظيم نقابي أو عمالي بشكل عام". تضيف كامل لـ"العربي الجديد"، أنّه "في ظل تقييد الحريات، من الصعب على الموظفين والنقابيين والعمال أن يستكملوا طريقهم بين هذا الكمّ الهائل من القوانين التي تصبّ في صالح رجال الأعمال وسياسات الخصخصة وتحكّم رأس المال، مثل قوانين الخدمة المدنية والنقابات العمالية والتأمين الصحي، وبين القوانين المكبّلة للحريات والحقوق عموماً مثل قانونَي التظاهر والإرهاب". وتقول كامل إنّ "تلك السياسات بدأت منذ عهد الرئيس الأسبق أنور السادات، وقد استكمل المسيرة الرئيس المخلوع حسني مبارك، لتستمر بعد الثورة طوال فترة حكم المجلس العسكري والرئيس المعزول محمد مرسي، وتنشط حالياً في ظل برلمان يؤيد النظام بشكل مطلق، عدا اثنَين من النوّاب تقريباً".
يفيد التقرير الأخير لدار الخدمات النقابية والعمالية المذكور آنفاً، بأنّ "السلطة الحالية تعود إلى سياسات نظام مبارك نفسها، بكل آلياته بل ورجاله أيضاً، هكذا تعلنها السلطة الحالية مواجهة تطلعات العمال الذين تفتحت آمالهم في الحرية بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، ورغم أنف الدستور.. لا لحق العمال المصريين في تكوين نقاباتهم بحرية، وبكل فجاجة تعمل من أجل العودة إلى التنظيم النقابي الواحد. تنظيم تابع للسلطة يأتمر بأمرها ليس له أي صلة بالعمال ومطالبهم وحقوقهم".