الإخفاء القسري في عهد السيسي: سلاح لمواجهة المعارضين

08 يونيو 2016
مئات المختفين لا يزال مصيرهم مجهولاً (سيد باز/الأناضول)
+ الخط -

منذ أيام قليلة، ظهر جمال عبدالصمد، المواطن المصري المختفي قسرياً منذ أكثر من عام في نيابة أمن الدولة. ولكنه سيبدأ مرحلة جديدة من دوامات الاتهامات والمحاكمات التي لا تنتهي. عبدالصمد، وهو عضو في حزب "الحرية والعدالة"، الذراع السياسي لجماعة "الإخوان المسلمين"، اختفى يوم 30 يونيو/حزيران 2015، بعدما دهمت قوة أمنية منزله في محافظة الجيزة، وألقت القبض عليه، واختفى بعدها تماماً إلى أن ظهر يوم 26 مايو/أيار الماضي، في نيابة أمن الدولة، بحسب المحامي الحقوقي في "التنسيقية المصرية للحقوق والحريات" حليم حنيش.
ويشير حنيش، إلى أن عبدالصمد ظهر في نيابة أمن الدولة على ذمة القضية 79، وهي قضية أمن دولة متعلقة بانفجار شقة في حي الهرم بمحافظة الجيزة في يناير/كانون الثاني الماضي، بعدما توجّهت قوة أمنية للقبض على من بداخلها، وأسفر الانفجار عن مقتل ثلاثة ضباط وستة من العساكر وإصابة 15 آخرين. يواجه عبدالصمد اتهامات بقضية تفجير شقة الهرم التي وقعت فيما كان هو مختفياً قسرياً لدى الأمن منذ ما قبل الواقعة بأكثر من ستة أشهر. ومع ذلك، يبدو عبدالصمد أحد المحظوظين في مصر، فقد ظهر فيما لا يزال المئات غيره، أو في تقديرات أخرى الآلاف، مختفين قسرياً في مصر.
بدأت ظاهرة الاختفاء القسري في مصر بشكل منهجي أواخر تسعينيات القرن الماضي. لكن نطاق هذه الظاهرة، اتسع عقب الانقلاب العسكري في مصر في 3 يوليو/تموز 2013، وتحديداً بالتزامن مع فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، الذي ترك وراءه المئات ممن وقعوا ضحايا القبض العشوائي والاختفاء في أماكن احتجاز سرية. ثم توسعت الدولة وأجهزتها الأمنية (الأمن الوطني والاستخبارات الحربية) في استخدام استراتيجية الإخفاء القسري خلال عام 2015 ليس فقط ضد المعارضين والمحسوبين على التيارات الدينية والسياسية، بل ليشمل مواطنين غير منخرطين بالعمل العام، بمن فيهم قصّر وكبار السن، ومن يظهر منهم يجد نفسه متورطاً بتهم وقضايا. ومن لا يظهر، يزيد من احتمالات موته تحت وطأة التعذيب واختفاء جثته، بادعاء أنها حالة انتحار أو تفجير. وآخرون يختفون للأبد بمصير مجهول، تماماً كمصير أبناء "أمهات ميدان مايو" في الأرجنتين، في سبعينيات القرن الماضي.


ففي عام 1977 شكّلت عشرات أمهات المختفين قسرياً في الأرجنتين حركة "أمهات ميدان مايو"، التي تحوّلت إلى منظمة في ما بعد، مع انضمام المئات لها من أمهات الأطفال، الذين أجبروا على المشاركة في عملية الكوندور أثناء الحرب في الأرجنتين واختفوا على إثرها في الفترة ما بين عامي 1976 و1983. تأسست تلك المنظمة أثناء محاولة الأمهات معرفة مصير أبنائهن، وقد بدأن في المسير نحو ميدان "مايو" في بوينس آيرس، العاصمة الأرجنتينية، عام 1977 أمام قصر الرئاسة "المنزل القرنفلي"، في تحدٍ لإرهاب الدولة الذي شرعت الحكومة باتباعه لإسكات المعارضة. فيما يعود تاريخ جريمة الإخفاء القسري لما هو أبعد من ذلك، ويرجع إلى فترة حكم أدولف هتلر في ألمانيا، الذي أصدر مرسوماً في 7 ديسمبر/كانون الأول 1941، أُطلق عليه "مرسوم الليل والضباب"، وأسفر عن وقوع مئات آلاف الأشخاص ضحايا لهذه الجريمة.
يصنّف القانون الدولي الاختفاء القسري، بـ"الجريمة التي تفضي في الغالب الأعم إلى إفلات مرتكبها من العقاب". ويعرّفها بأنها "انتهاك لإنسانية الشخص الذي يختفي. وفي معظم الأحيان، لا يفرج عن الشخص المختفي أبداً، ويبقى مصيره مجهولاً. ولذا، فهو انتهاك مستمر للحقوق الإنسانية لأفراد عائلة المختفي، الذين لا يتمكنون من معرفة حقيقة ما حدث أو مكان وجود أحبائهم".
ولجريمة الاختفاء القسري في مصر، مئات إن لم يكن آلاف الضحايا، وتتباين التقديرات بشأن المختفين قسرياً في مصر، لاعتماد المنظمات الحقوقية على البلاغات المقدّمة لها أو الحالات التي تتمكن من توثيقها في أجواء سياسية وحقوقية بالغة الصعوبة.
فـ"التنسيقية المصرية للحقوق والحريات"، وثّقت وحدها قرابة ألفي حالة اختفاء قسري في الفترة من يناير/كانون الثاني 2015، وحتى مارس/آذار 2016. ووثّقت التنسيقية 1840 حالة إخفاء قسري في مصر، خلال عام 2015 فقط، لا يزال منهم 366 حالة رهن الإخفاء القسري حتى الآن. كما وثّقت 204 حالات اختفاء قسري في الفترة ما بين ديسمبر/كانون الأول 2015 وحتى مارس/آذار 2016، منهم 103 حالات ظهرت في وقت لاحق، في حين لا يزال الباقون محتجزين في أماكن غير معروفة.
ومن أبرز نماذج الاختفاء القسري في مصر، خلال العامين الماضيين، حالة أشرف شحاتة. ففي 13 يناير/كانون الثاني 2014، أجرى شحاتة، اتصاله الأخير بزوجته، مها مكاوي، ليخبرها أنه "سيذهب إلى مقر أمن الدولة في مدينة 6 أكتوبر، بعد انتهاء دوامه في العمل، للدردشة في بعض الأمور، وفقاً لقرار استدعائه"، ومن يومها لم يعد، فقد "خطفوه من عمله"، تقول مكاوي.
أشرف شحاتة عضو في حزب الدستور المصري، وهو محامٍ وله عمله الخاص في المدرسة التي يمتلكها بحي كرداسة في القاهرة. ومها مكاوي، زوجته، هي الأخرى عضو في الحزب نفسه، وهي أم لثلاثة أبناء، وكانت حاملاً في الشهر الثاني عند اختفاء زوجها، ولكن الحمل لم يستمر مع التوتر والقلق المصاحبين لها حتى اليوم.
دام الاختفاء طويلاً، إلى أن تقدّمت مكاوي بمساعدة محامين، بطلب استخراج "شهادة تحركات" لزوجها إلى إدارة الجوازات المصرية، ثم جاءت المفاجأة بعدما تسلمت الشهادة بعد أسبوع من تقديم الطلب، بأن زوجها "خارج البلاد"، من دون أية تفاصيل أخرى تشير إلى موعد مغادرته أو مكان توجّهه، وهو ما تعاملت معه مكاوي باعتباره تمويهاً من قبل جهات الأمن من أجل إقناعها أنه سافر وتركها، لتكفّ عن البحث عنه، على حد قولها.
ولكن قبل أشهر، نشر المجلس القومي لحقوق الإنسان، وهو منظمة مصرية حكومية، تقريراً كشف فيه عن مصير حوالي 118 مختفياً قسرياً في مصر، كان من بينهم اسم أشرف شحاتة. وأوضح بيان المجلس أنه متهم على ذمة قضايا أخرى، ومحكوم عليه بالسجن خمس سنوات في سجن الزقازيق بالشرقية.
بدأت دوائر البحث من جديد، حتى تبين أن اسم أشرف شحاتة الذي ورد في تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان، لا يخص أشرف شحاتة المختفي قسرياً، بل هو تشابه أسماء، فانقطع خيط جديد في لغز اختفائه، وبقي أمل تتشبث به زوجته وأبناؤه الثلاثة، بعودته مرة أخرى إلى المنزل.
قضية الإخفاء القسري تتفاعل خارجياً، ففي 25 مايو/أيار الماضي، حذرت منظمة "العفو الدولية"، بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، من "الاستهانة" بتعليق تبادل الأسلحة مع مصر، وتزويد القوات المصرية بالأسلحة الخفيفة والثقيلة ومعدات المراقبة، والتي ترى المنظمة الحقوقية أنها بذلك تخاطر "بالتواطؤ في القتل والاختفاء القسري والتعذيب والتجسس في مصر". وتتوالى التقارير الحقوقية المصرية والدولية في تحذير الحكومة من انتهاج سياسة الاختفاء القسري في مصر، إلا أنها لا تحدث صدى.