نساء الجزائر ..

18 مايو 2015

لوحة بيكاسو "نساء الجزائر" .. 180 مليون دولار

+ الخط -
في عام 1954 وقع حدثان في حياة بيكاسو، أديا إلى ولادة سلسلة من اللوحات (15 لوحة) تتخذ من نساء الجزائر منطلقاً لها: وفاة صديقه هنري ماتيس، كبير فناني تلك اللحظة الفرنسية، وانطلاق حرب التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي التي استمرت ثماني سنين، أفضت إلى خروج الفرنسيين واستقلال الجزائر. وقبل نحو أسبوع، حطمت واحدة من لوحات بيكاسو تلك كل الأرقام التي بلغتها لوحاتٌ من قبل، كما حطمت توقعات متابعي سوق الفن التشكيلي، فقد بيعت اللوحة لمشترٍ، لم يكشف النقاب عن هويته، بأكثر من 179 مليون دولار!
يقال إن الفن لا يقدَّر بثمن. خطأ طبعاً، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالفن التشكيلي الذي سجلت سوقه، في العام الماضي، مبيعات تجاوزت 400 مليار دولار! لقد بدأ فن الذين عاشوا وماتوا معدمين، أو شبه معدمين (باستثناء بيكاسو) يقدَّر بأثمانٍ لم تخطر في بالهم، حتى في سابع سماوات الأحلام. كانت هناك، دائماً، سوق للفن التشكيلي، وكان لها رعاة ومشجعون: كنيسة، نبلاء، تجار، لكنها لم تصل إلى هذا الحد من الجنون، كما هي عليه اليوم. فلا شيء يبرر هذه الأسعار الفلكية للوحات أو التماثيل التي تباع في دور المزادات العالمية. فمائة وثمانون مليون دولار تقريباً ليست ثمناً للقيمة الفنية للوحة، فليس هناك مقياس مالي للقيمة الفنية. هناك فنانون مطلوبون يحب الأثرياء التباهي باقتناء أعمالهم، وتحويلها ديكوراً يزيِّن قصورهم، وربما بيعها، لاحقاً، بضعف ما دفعوه فيها. القيمة المالية للفن تحددها اليوم بورصة مالية، ومستشارون ماليون وفنيون. كما أن هناك أموالاً كثيرة في العالم. لم يعرف العالم من قبل هذا العدد الهائل من ذوي الثروات التي تستعصي على الحصر، لأنها تتكاثر، كالبكتيريا، في اللحظة التي تحاول فيها عدَّها. تقدِّر إحدى دور المزادات الفنية إنفاق الأثرياء على شراء اللوحات بواحد في المائة من ثرواتهم. فكم تبلغ ثروة من اشترى لوحة "نساء الجزائر"؟ عدّوها أنتم. صحيح أن الفن التشكيلي لم يوجد، عموماً، ولم يتطوَّر، خارج السوق، بيد أن أحداً لم يتخيّل أن تتجاوز هذه السوق ميزانية قارة.
أتذكر الذهول الذي استبد بنا عندما اشترى ثري ياباني، قبل ثلاثة عقود، واحدة من سلسلة عباد الشمس لفان كوخ، بنحو أربعين مليون دولار. أصبح هذا الرقم متواضعاً جداً، اليوم، أمام ما يمكن أن تباع به اللوحة نفسها، أو حيال تمثال نحيل لجياكوميتي.. فضلاً عما وصلت إليه لوحة بيكاسو هذه.
لنعد إلى "نساء الجزائر". لا تذكرنا لوحة بيكاسو، من سلسلة لوحاته "الجزائرية"، بنساء جزائريات أخريات رسمهم قبله بأكثر من قرن يوجين دولاكروا. ولا محظيات ماتيس. على الرغم من أن النقاد يربطون بين سلسلة بيكاسو وأعمال هذين الفنانين الاستشراقيين. هناك نقد نسوي حاد لبيكاسو، لعلاقته بالنساء وتصويره لهن. لكن بيكاسو، عكس دولاكروا وماتيس، انخرط في حركات زمانه السياسية. هو، أصلاً، ابن بلد عاش حرباً أهلية، أخذ فيها بيكاسو موقفاً تقدمياً. علينا أن نتذكر ملحمته التشكيلية الهائلة "غورنيكا" التي خلَّد فيها جريمة تدمير الطائرات الألمانية والإيطالية (حلفاء فرانكو) البلدة الباسكية التي تحمل الاسم نفسه. لهذا "نساء الجزائر" عند بيكاسو مختلفات كلياً عن نساء الجزائر، خصوصاً عند دولاكروا، فهن لا يستلقين على آرائك، ولسن في حمام، ولا هن عاهرات أو محظيات. لا يوجد تلصّص هنا على ما هو حميمي، أو كشف لما هو مستور.
النقد النسوي يأخذ عليه تشويهه شكل المرأة وتقطيع أوصالها. ففي لوحة "نساء الجزائر" هناك فعلاً تشظٍ. هناك أوصال، على نهجه التكعيبي. ولكن، هناك شموخ في وجه المرأة الوحيدة كاملة الجسد. ينسى نقاد بيكاسو الذين يحاولون إلحاقه بالاستشراق، إنه اهتم بالنضال الجزائري. فإلى "نساء الجزائر"، ثمة تخطيط رسمه للمناضلة جميلة بوباشا، عندما حكم عليها بالإعدام في فرنسا. قد يكون هناك مرجع "استشراقي" في "نساء الجزائر"، غير أنه، في ظني، مقلوب.
 
دلالات
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن