أين اختفى اللاجئون السوريون في المفرق؟

08 يوليو 2019

مشهد عام لمخيم الزعتري في شمال الأردن (22/11/2018/Getty)

+ الخط -
على بعد ثلاثة عشر كيلومتراً من بيت أهلي في المفرق، يقع أكبر مخيم للاجئين في الشرق الأوسط، هو مخيم الزعتري. أعرف هذه المنطقة من قبل... كنا نذهب صغاراً للعب بالقرب من مهاجع الطائرات، ولشرب الشاي بالقرب من "ماتورٍ" لا يتوقف عن الضجيج يسحب الماء من إحدى الآبار الداخلية، وتأتي تنكات المياه لحمله إلى من هم بحاجة إلى هذه المياه النادرة.
كانت الزعتري التي يلفظ الأردنيون اسمها بطريقةٍ مختلفةٍ عن الطريقة السائدة في الإعلام العربي، فهم يلفظونها هكذا "الزَّعتَّرِي"... كانت مجرّد أرض صحراوية تمتد على مدى النظر، تتخللها تجمعات سكانية متناثرة لبدو الشمال الأردني. لا شيء يرتفع في تلك المنطقة. لا جبال. لا أبنية ملحوظة. لا أشجار. العراء في أشدّ أشكاله سفوراً. يمكن لمن يدقّق النظر أن يلحظ أعشاباً وشجيراتٍ صحراويةً قصيرة القامة تناضل في الصهد. تختزن ما تتمكّن من التقاطه من ندى الليل، وتتمثَّله ببطء، كما يتمثل جسد البدوي السوائل التي لا يهدر قطرة منها بلا طائل، لأنها قطراتٌ، كما يعرف، غير مستدامة، إلى أن يأتي الشتاء بأمطار قليلة، قد تهطل دفعةً واحدة ثم تحتجب.
لا أعرف، بالضبط، لِمَ اختيرت تلك الأرض لإقامة مخيمٍ لإيواء اللاجئين السوريين الفارّين من جحيم بشار الأسد، سوى أنها قريبةٌ من محطة الزعتري التي تزوّد مدينة المفرق بالمياه الجوفية. هذا، في حد ذاته، سببٌ وجيه. سببٌ آخر مهم، أيضاً، يتعلق بقربها من الحدود الأردنية السورية ومنافذ العبور.
***
في الطريق إلى مخيم الزعتري (13 كم شرق مدينة المفرق)، كان لاجئون سوريون عديدون يعودون من العمل في المزارع القريبة. ويبدو أن هذا الأمر جرى ترتيبه منذ فترة، فلا ترى إرباكاً وبلبلة، فالحركة تنم عن اعتياد وروتين. سألت المسؤول عن البوابة: من هم هؤلاء؟ فقال إنهم لاجئون تم اختيارهم من بين الحاصلين على تصاريح عمل رسمية، للعمل خارج المخيم. وهنالك داخل المخيم مكتب خاص لاستخراج تصاريح العمل، يُدعى مكتب تصاريح العمل.
... لم ألبث حتى اكتشفت سوء تقديري، فالإحساس الذي راودني بشأن تناقص عدد السوريين في مدينة أهلي، المفرق، كان مردّه زيارتي قبل فترة لبنان، حيث يتضخم تقريباً كل شيء يتعلق بالنازحين السوريين. والحكومة اللبنانية لا تسميهم هكذا، نازحين، كأنهم في تسميتهم لاجئين يتحولون كائناتٍ قانونية تناسب الحساسية والخطاب السياسي اللبنانيين.
***
مع تطور القتال في سورية، بلغ عدد السوريين الذين يضمهم مخيم الزعتري نحو نصف مليون لاجئ في مدينةٍ لا يتجاوز عدد سكانها 60 ألف نسمة... بوسع من يزور منطقة الزعتري أن يلحظ عشرات آلاف الخيام والكرفانات والمنشآت المرافقة للجوء البشري. هناك حياةٌ أخرى، راحت تدبُّ وتتسع. حياة تنشأ، عادة، مع أي تجمّع بشري مستقر، أو شبه مستقر: دكاكين، محطّات وقود، كراجات سيارات، مطاعم، صالونات حلاقة ومحال بيع الدراجات الهوائية وقطع غيارها وطائفة أخرى من الأعمال التي تفيد من وجود المخيم – المدينة. وفي داخل المخيم، تعتبر الدراجة الهوائية وسيلة النقل الأولى بين قطاعات المخيم المختلفة. لم أر في حياتي مخيماً بهذا الحجم والامتداد والأنفاس البشرية التي تؤثثه. رأيت نشوء مخيمات إيواء للنازحين من الضفة الغربية بعيد حرب حزيران 67، لكنها لم تبلغ قط ما بلغه مخيم الزعتري. امَّحت، بمرور الوقت، تلك المخيمات "المؤقتة"، وذابت في محيطها، أو تحولت أحياء وامتدادات للمدن التي قامت بالقرب منها.
المخيف في أمر هذه المخيمات أن تبقى. أن لا يعود الذين تركوا بيوتهم وأرضهم إلى ما تركوه، مرغمين. أليس هذا ما يخيف اللبنانيين الذين يضطربون على حبال الطائفية ومخاوف الديموغرافيا؟ فلا تبدو هناك نية لدى النظام السوري لإعادة من شرّدتهم دباباته وبراميله إلى مدنهم وقراهم. لكن الديموغرافيا لا تخيف الأردنيين. وربما لا تخطر على بالهم. ما يشغلهم أن يتخلى العالم تماماً عن اللاجئين السوريين: بشراً وأفقاً سياسياً. وهذا ما يحصل، فمنذ عامين، أو أكثر، تقلص الاهتمام السياسي والإغاثي بمأساة اللاجئين السوريين. كل ما قيل في اجتماعات الدول المانحة، وما لهجت به ألسن المندوبين الدوليين تحت قبة الأمم المتحدة، لم يتحقق. يحتاج اللاجئون السوريون إلى "صنع" حياة كريمة بديلة، لكنهم يحتاجون أكثر إلى حل سياسي في بلادهم، فلا شيء أسوأ من حياة اللجوء. لا شيء أكثر هدراً للكرامة البشرية من أن تبدو "عالةً"، أو مشرّداً بلا وطن. وهذا، بالضبط، هو المعنى المُذلّ في أن تكون لاجئاً خارج بلادك، أو نازحاً داخلها.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن