نساءٌ يُتقِنَّ صناعة الرجال

21 اغسطس 2014
+ الخط -


نقف أمام خنساوات فلسطين، وليس في صدورنا أو أفواهنا إلا كل الإكبار والإجلال. نتذكر المجاهدة الشهيدة مريم محمد فرحات، أم الشهيد نضال فرحات، بما تمثّل من نموذج بارز لجهاد الأم الفلسطينية، التي ما تركت التضحية لأن تكون خيالات وشعارات، بل استطاعت أن تجعلها واقعاً يعيشه المراقبون لسيرة حياتها المجيدة.

هذه الأم الفلسطينية المجاهدة، التي دفعت ولدها إلى درب الشهادة، لتجعل من جسده شعلة مضيئة على طريق تحرير فلسطين، هي التي أوت في بيتها، مرّة، القائد المجاهد الشهيد عماد عقل، وكانت تستشعر أمومتها لكل مجاهد، فلم تؤثر الصمت، وظهرت في شريط فيديو وهي تودّع ابنها المجاهد، وهي تعلم أنه لن يعود إليها.

ظهرت في الشريط، وهي تعلم أن هذا قد يعرضها للأذى، لكن ظهورها كان ضرورياً، ليكشف عن حياة هذه الأمة وحيويتها، وأن هذه الأمة التي أنجبت الخنساء، تماضر بنت عمرو السلمية، قادرة على أن تنجب خنساوات كثيرات.

لم تجزع أم نضال فرحات، عند سماعها بنبأ استشهاد أيّ من أبنائها، بل قالت، بصوت ملؤه الثبات، إنها مستعدّة لتقديم كل أبنائها للمقاومة. كثيرون ممّن لا يفهمون فلسفة الموت والحياة في الإسلام، وجدوا صعوبة كبيرة في استيعاب معنى وداع الأم لابنها وإعداده للجهاد حين قالت: "لا توجد أمٌّ في الدنيا يهون ابنها عليها، ولم أكن أتحمّل أن يُشاكوا بشوكة، ولكن، في سبيل الله، يهون كل شيء، والغالي يرخص في سبيل إعلاء رايته، وتحرير الوطن المقدّس، والأساس في هذه الحياة هو الإيمان بالله والإيمان بالجهاد. وإن لم نجاهد نحن الآن، فمتى سنجاهد؟ ثم إذا أنا منعت أبنائي من الجهاد، وهذه منعت، وتلك منعت أبناءها، فمَن سيدافع عن الإسلام وفلسطين، ويحرر الأقصى، ويقف في وجه العدوان الصهيوني، ويصدّه ويدافع عن وطننا وأمتنا؟".

وذاقت خنساء الخليل، الأم المجاهدة أم عامر أبو عيشة، مرارة وألم استشهاد ابنها المجاهد البطل زيد عمر أبو عيشة، أثناء محاولته اقتحام مستوطنة صهيونية في الخليل، ثم هدم العدو بيتها.
تقول هذه الأم المجاهدة، في مقابلة تلفزيونية معها: "لن يفاجئني شيء. أعيش منذ 25 عاماً في مقاومة مستمرة. الاحتلال أوجع قلبي، حين قتل ابني زيد، وقبلها شرّدني وأطفالي، عندما هدم منزلي واعتقل زوجي. لا يوجد وجع لم يجرّعني إياه الاحتلال من قبل لأخشاه اليوم".

لم تجزع والدة المجاهد البطل المطارد، عامر أبو عيشة، لهدم منزلها، بل أبدت افتخارها بابنها، وأكدت أن هدم المنزل، الذي جرى هدمه للمرة الثانية، هو بيت جهاد، وستجري إعادة بنائه من جديد، ولن يفلح الاحتلال في كسر العائلة وصمودها. وتعهدت بتربية أبناء عامر الثلاثة على نهج والدهم، على الجهاد ومحاربة الاحتلال، ووصفته بأنه "بطل وتاج رأسها ورأس العائلة وكل أحبابه".

هل استمع دهاقنة ومنظرو اتفاق أوسلو الذين أدخلونا في متاهات التنسيق الأمني وزواريبه، والذي جلب الخراب والدمار إلى شعبنا، ورموز التواطؤ مع العدو الإسرائيلي، ممّن نصّبوا أنفسهم زوراً وبهتاناً للتحدث باسم الشعب الفلسطيني، وممّن ارتبطت مصالحهم الشخصية بالمشروع الأميركي ـ الصهيوني، لوضع اللمسات الأخيرة على تصفية القضية الوطنية لشعبنا، لما قالته الأم المجاهدة، أم عامر أبو عيشة؟  

ظاهرة خنساء الخليل ليست حالة معزولة فردية أو فريدة، فأم نضال فرحات، وأم نبيل حلس، وأم أحمد العابد، وأم رضوان الشيخ خليل، وأم نافذ شهوان، وأم إبراهيم الدحدوح، وأم خالد الزهار، وأم جهاد دوفش، وأم جمال نصار، ومئات غيرهن من خنساوات فلسطين يشكلن، اليوم، ثورة حقيقية على واقع الهزيمة والجبن والضعف والتردّد، ثورة على الشعور بالنقص والدونيّة، ثورة على تيار التنازلات بلا حدود، ثورة على الزعامات التي باعت الوطن.

هكذا هي الأم الفلسطينية، وهكذا عوّدتنا دائماً أن تكون مصنعاً للرجال. توقف شريط الذكريات ليتحوّل إلى حقيقة، حين نقف أمام التضحيات الجسام التي تقدمها الأم الفلسطينية المؤمنة التي تتقبّل استشهاد فلذة كبدها بالزغاريد، وتحمد الله وتشكره على هذه النعمة التي أنعم الله بها عليها.

avata
avata
عـادل أبـو هـاشـم (الأردن)
عـادل أبـو هـاشـم (الأردن)