نزار صابور في القلمون وجوه وأيقونات

29 ديسمبر 2015
من أعمال المعرض (العربي الجديد)
+ الخط -

الفنانون التشكيليون السوريون، ربّما كانوا أوّل من اكتشف روعة القلمون وجماله، فبدوا مشدوهين ومأخوذين به، وقاموا جميعهم تقريباً، وكأن أحداً كلّفهم بهذه المهمّة، برسم جباله وبيوته وأديرته المحفورة في أعماق الصخر، إلى أن صار رسم معلولا أحد تقاليد الفن التشكيلي السوري، وما عاد يحتاج من أغلبهم أن يذهبوا إليها ويروها، أبكرهم وأهمهم، ابن معلولا ميلاد الشايب، ونصير شورى وزيارته الشهيرة لها مع الفنان اللبناني صليبا الدويهي منذ أربعينيات القرن الماضي، ومحمود حمّاد الذي فازت لوحته "معلولا" بجائزة معرض الخريف الأوّل عام 1950، ولؤي كيالي من صبَ في معلولاه كلّ رقته وشاعريته، والياس زيّات صاحب لوحة "خريف في معلولا". أمّا فاتح المدرس فقد كان أوّل من خصّ القلمون بسلسلة أعمال يرسم بها تلاله وبيوته وبساتينه ونساءه.
إن نزار صابور وريثهم جميعاً، ليس كموتى، لا أحداً منهم قد مات!؟، بل كوريث الخاتم، ووريث قلم، وأرياش وألوان، وذاهب بها إلى القلمون؛ قلمون الوديان والجبال والجرود، وأيضاً قلمون الناس، تدلّ على حضورهم العميق نوافذ بيوتهم المضاءة بالأصفر والأزرق، وقد آثروا أن يصطفوا كوجوه متلاشية، وكقديسين بلا ملامح، ولكن بهالات، على أطراف اللوحات وإطاراتها.
وكما نزار وريث "معلولات وقلمونيات" فاتح المدرس الملهم الأوّل، ولؤي كيالي وسواهما، هو الذي لم يبدأ تجربته القلمونية، كما أخبرني، إلّا بعد اطلاع واسع على أغلب أعمال الفنانين السوريين الذين تناولوا هذا الموضوع، الروّاد منهم والمعاصرين، رغبة منه أن تشكّل تجربته إضافة حقيقية لها، وأيضاً طموحاً مشروعاً بتخطيها جميعها، هو الذي لا يخصّص لها الآن عملين أو ثلاثة، ليشارك في معرض جماعي، أو تظاهرة تشكيلية ما، أو لتحتل زاوية ضمن أحد معارضه الشخصية، بل إنه يريد أن يستوفي جميع الشروط المطلوب توفرها، لتكون واحدة من أهم مراحله الفنية.
أعود وأقول، كما نزار وريث معلولات وقلمونيات الفنانين السوريين، فإن تجربته هذه بدورها وريثة كلّ تجاربه في مراحله السابقة، فها هي مدنه الشرقية، التي كانت تغطّي بيوتها المضاءة، حدبة الجبل السحري المتوج بالأهلة المذهبة، تهبط فيها إلى سفحه، تلوذ خائفة بحضنه، فيقوم هو ويحويها بين ساعديه ليحميها ويطمئنها، وقد تحوّل بفعل سحر أسود، إلى جبل رصاصي مظلم، صخوره من فحم، وترابه من رماد. وها هم أيضاً قديسوه بأهلتهم وصمتهم يحرسون ويبخّرون بوّابات روحه، نزار الذي، في واحد من أهم وجوهه، لا غاية له في الرسم، إلّا أن يحول كلّ ما يراه إلى أيقونات. ثم مرحلته "عن الحب"، وقد لا يخطر على بال أحد، أن دافع نزار الأوّل لرسم هذه القلمونيات كان دافعاً عاطفياً صرفاً، اضطراباً شعورياً عميقاً، لم أعرفه فيه سابقاً في أي من مراحله وتحوّلاته.

وهذا ما أدّى بقوّة لتواجد الآليات والتقنيات الخشنة لمرحلة "حياة في الرماد"، ذلك أن نزار في كلتيهما، يخلق من الرماد والفحم، ما يحارب به الكره والقبح والعدم. في الأولى ينتصب في وسط اللوحة كما يتوزّع على أطرافها المحارب، مبعداً ما بين قدميه في وقفة تحدّي، وفي الثانية، يقوم بهذه المهمة الجبل العملاق نفسه.

أستطيع، ولو بعسف ملحوظ، أن أقسّم قلمونيات نزار صابور، حسب اطلاعي عليها، ومتابعتي لرسمه العديد منها خلال زيارتي المتكررة لمرسمه في اللاذقية، إلى ثلاث لوحات رئيسة:

1- العرضانية، حيث تشكل سلسلة الجبال، الممتدة عرضاً، أفق اللوحات، فتبدو وكأنها قلاع أسطورية، بأسطح وأعمدة رمادية وسوداء، عالقة في الفضاء، وتحتها، وعلى خط مواز، تتراكب وتمتدّ البيوت، مربعات صغيرة مضيئة حيناً وقاتمة حيناً آخر. فيغطي هذا المنظر البانورامي كامل مساحة اللوحة، وربّما يتوضع في وسطها، يلصقه نزار لصقاً، ليحيطه بفراغ يتسع أو يضيق، تتخلله زخارف وكلمات غير مقروءة، بعد هذا يأتي بإطار عريض موشى بالملائكة والقديسين ورهبان الصخور، يلفّ حول كلّ هذا.


2- الطولانية، التي يؤدّي فيها الجبل دور البطولة الأولى، فينهض من الأرض السوداء، كأنه مارد جبّار، بجذع وصدر وأطراف لها تضاريس، تبدو كالعضلات، محتلّاً ثلاثة أرباع مساحة اللوحة.
ينهض المارد من الأرض ولكنه يبقى عالقاً بها، يستمدّ قوته منها ومن ثباته عليها. وهذا أيضاً، إما أن يملأ اللوحة كاملةً حتّى أطرافها، وكأنه يرغب بالخروج منها، أو، أن يتوسطها، كما سابقتها، ضمن فراغ قاسٍ أشبه بصحراء، من قماش اللوحة قبل التأسيس، يبخل عليه نزار حتّى ببعض التوشيحات التي من شأنها أن تقيم رابطاً بينه وبين اللوحة التي تتوسطه، مكتفياً بطبع خواتمه المبهمة على الحدود الفاصلة، يخيطهما معاً بدرازة كما عظام الجمجمة.

3- المعلولات، أكانت مرسومة على القماش، أم على أقراص دائرية من الورق المقوّى، أكانت منفّذة بذات التقنيات المعقّدة التي يستخدم فيها نزار، الرماد والعرجوم والفحم، الذي يقوم بطحنه في مرسمه، فيصنع سماكات متفاوتة، وتدرّجات رمادية متنوعة من الأسود الحالك إلى الرمادي المطفأ، أم الشفّافة المرسومة بخطوط بسيطة وألوان ممسوحة مسحاً، فهي، كما من الممكن توقعه، أشد المعروضات أسى وجمالاً بآن، حيث ينأى عنها أيّ نوع من أنواع القسوة، إن كان في الأسلوب أو في المشاعر، فتبدو بسكونها ووداعتها وكأنها استسلام للأقدار العمياء التي ترسم مصائرنا.
ليس القلمون اليوم، ما كانه سابقاً منذ قديم الزمن، ولا ما كانه منذ فترة وجيزة لا تتجاوز الخمس سنين التي خلت، ما عاد ذلك الجبل ذا الثوب المزركش الذي يبرق ويتلألأ إذا ما أشرقت عليه الشمس، بل بات، وهذا ما تريد أن ترينا إياه قلمونيات ومعلولات نزار صابور، جبلاً أسود من رماد ودخان.

اقرأ أيضا:
اللاذقية، جنّة الفلافل
الكنيسة المعلّقة
المساهمون