مع احتدام المعارك في محيط مدينة الرقة التي تعتبر معقلاً لتنظيم "داعش"، دخلت الخلافات الروسية الأميركية مرحلة جديدة من التصعيد، تمثلت في إسقاط مقاتلة "سوخوي 22" تابعة لقوات النظام السوري من قبل الطيران الأميركي، وإعلان روسيا وقف العمل بمذكرة منع الحوادث في الأجواء السورية، وفرض الولايات المتحدة عقوبات جديدة بحق موسكو، التي ردت بإلغاء المشاورات الثنائية على مستوى نائبي وزيري الخارجية.
وفي هذا السياق، يرى مدير مركز تحليل النزاعات في الشرق الأوسط بمعهد الولايات المتحدة وكندا التابع لأكاديمية العلوم الروسية، ألكسندر شوميلين، أن التصعيد بين موسكو وواشنطن أمر طبيعي، ويعود إلى تسابق اللاعبين على الأرض لتحرير الرقة من قبضة "داعش". ويقول شوميلين، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إن "هذا تطور طبيعي للأحداث، وانتقال إلى مرحلة جديدة من النزاع السوري، بمشاركة عدد كبير من اللاعبين. مَن سيحرر الرقة، سيعلن أنه انتصر على داعش". ويضيف "هناك قوات معارضة للأسد، وأخرى موالية، تتقدم باتجاه الرقة، مدعومة براعييهما، روسيا والولايات المتحدة، من الجو، وقد بدأ التنافس بينهما".
وحول دوافع إعلان روسيا وقف العمل بمذكرة منع الحوادث الجوية مع الولايات المتحدة، يقول شوميلين "شكّل إسقاط طائرة السوخوي السورية ضربة لهيبة القوات الجوية الروسية، فردت موسكو بالانسحاب من مذكرة منع الحوادث بشكل استعراضي". ويحذر من أن مثل هذا التصعيد ينذر بالصدام المباشر بين طيران روسيا وأميركا، قبل أن يضيف "لا تتمنى موسكو وواشنطن ذلك، وعلى القوتين الخروج بنتائج من هذه الواقعة". وكانت وزارة الدفاع الروسية قد أصدرت، الإثنين الماضي، بياناً وصفت فيه حادثة إسقاط المقاتلة السورية بأنها "عدوان عسكري"، معلنة وقف العمل بمذكرة منع الحوادث في الأجواء السورية، مع العلم أن هذه ليست المرة الأولى التي تعلقها فيها روسيا، إذ سبق وقف العمل بها بعد الضربة الصاروخية الأميركية على قاعدة الشعيرات في محافظة حمص في إبريل/نيسان الماضي، قبل أن يتم استئناف العمل بها بعد أقل من شهر. وطالبت وزارة الخارجية الروسية، على لسان المتحدثة باسمها، ماريا زاخاروفا، واشنطن بإجراء تحقيق دقيق في حادث إسقاط طائرة سوخوي" في محافظة الرقة، معتبرة ذلك انتهاكاً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. كما دعت إلى "اتخاذ الإجراءات اللازمة للحيلولة دون تكرار مثل هذه الحوادث في المستقبل". وأعلنت زاخاروفا أن "الولايات المتحدة تقوم بزيادة وجودها العسكري في جنوب سورية، منتهكة القانون الدولي"، معربة عن "استغراب الجانب الروسي بشأن أنباء حول نقل منظومات صواريخ من نوع هيمارس إلى قاعدة التحالف الدولي في منطقة مدينة التنف إضافة إلى نشر مزيد من القوات الأميركية شمال شرق التنف".
وذكرت صحيفة "واشنطن بوست"، أن المسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذين يشاركون في التخطيط لهزيمة "داعش" في الرقة، يخططون للخطوة التالية في الحرب المعقدة، التي ستجعلهم في مواجهة مباشرة مع قوات النظام والقوات الإيرانية، وذلك خلال الصراع على البادية شرق سورية. وفي مرحلة ما، فإن الصراع قد بدأ، مع استهداف قوات النظام والمليشيات المدعومة من إيران، وهي بمثابة إنذار إلى رئيس النظام، بشار الأسد، وطهران، من أن أميركا لن تسمح لهما بمواجهة الأميركيين والقوات المدعومة منهم، أو عرقلتهم. وأوضحت الصحيفة أنه ومع تقدم قوات النظام والمليشيات شرقاً، بدأ مسؤولون في البيت الأبيض بالضغط على وزارة الدفاع الأميركية من أجل إقامة مواقع في البادية، بهدف عدم السماح لقوات النظام أو المليشيات التابعة إلى إيران بالتقليل من قدرة الجيش الأميركي على كسر دفاعات "داعش" على نهر الفرات جنوب الرقة، ومنها إلى العراق، وهي منطقة واسعة ومكتظة قد تسمح لـ"داعش" بإعادة التجمع ومواصلة التخطيط لعمليات لاستهداف الغرب، بالإضافة إلى أن هذا الأمر سيؤدي إلى إضعاف قدرة الأسد على الإمساك بالبلد، وفي النهاية إخراجه من الحكم. وأشارت الصحيفة إلى أن الحكمة والحاجة إلى مثل هذه الاستراتيجية، التي قد تؤدي إلى التواجه مباشرة مع إيران وروسيا، كانت محور نقاش مكثف بين البيت الأبيض والبنتاغون. وأشارت إلى معارضة البعض في البنتاغون لهذا التحرك، وسط قلق من الابتعاد عن الهدف الرئيسي للحملة، وهو هزم "داعش"، وما إذا كان يمكن حماية قوات أميركية في مناطق معزولة في سورية أو تلك الموجودة في مناطق تتواجد فيها مليشيات مدعومة من إيران في العراق. وقلل مسؤول في البيت الأبيض، ضمن عدد من المسؤولين تحدثوا إلى الصحيفة، من المخاوف. وأشار إلى أن توسيع الدور الأميركي قد لا يحتاج إلى المزيد من القوات. وقال "مع قدرتنا الجوية، انت لا تتحدث عن الكثير من المعدات للقيام بهذا الأمر...أنت لا تحتاج إلى الكثير من القوات للحصول على موطئ قدم". وقال مسؤولون في البيت الأبيض إن البنتاغون، وليس البيت الأبيض، هو من اتخذ قرار اسقاط الطائرة الإيرانية من دون طيار والطائرة الحربية التابعة للنظام السوري، رداً على اقترابهما أو مهاجمتهما للقوات الأميركية أو الحلفاء السوريين.
عقوبات بحق القائد المحتمل للمرتزقة
وبالتزامن مع التصعيد العسكري في سورية، فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة على عدد من الأشخاص الطبيعيين والشركات والمصارف والمنظمات الروسية، بما فيها شركة "فاغنر" العسكرية، غير المسجلة رسمياً، وعلى قائدها، ديمتري أوتكين، الذي تشير تقارير إعلامية متكررة إلى أنه قاد مجموعات المرتزقة الروس في منطقة دونباس شرق أوكرانيا ثم في سورية. ورغم أن روسيا لم تعترف يوماً بضلوعها في النزاع في دونباس، أو خوضها عمليات برية واسعة النطاق في سورية، إلا أنه سبق للكرملين أن اعترف بهوية ضابط الاحتياط أوتكين، من دون تأكيد وجود مقاتلي "فاغنر" في سورية. وتشير تسريبات إعلامية متكررة إلى سقوط قتلى خارج صفوف الجيش الروسي في سورية، وجاء آخرها هذا الأسبوع، إذ أفادت إحدى الصفحات الصربية، على "فيسبوك"، بمقتل الصربي ديمتري ساشا كاران (24 سنة)، الذي كان يقاتل في سورية ضمن صفوف شركة ما. ومع ذلك، قللت صحيفة "فزغلياد" الروسية من أهمية العقوبات الأميركية بحق "فاغنر"، مشيرة إلى أنه لا تتوفر لدى واشنطن أية آليات لمعاقبتها، لأن الشركة "غير موجودة"، وفق الصحيفة. وفي مقال بعنوان "الولايات المتحدة تحاول معاقبة شركة عسكرية خاصة أسطورية روسية"، أشارت الصحيفة إلى أنه "ليس من الواضح كيف ستتخذ وزارة الخزانة الأميركية الإجراءات اللازمة لمعاقبة كيان ليس له شخصية اعتبارية وبيانات تسجيل وأرصدة في المصارف".
ويعود أول ذكر لمشاركة شركة "فاغنر" في القتال في سورية إلى مارس/آذار 2016، عندما نشرت صحيفة "فونتانكا" الإلكترونية المستقلة تحقيقاً أفادت فيه بمقتل عشرات من أفراد الشركة أثناء عملية تحرير تدمر في فبراير/شباط من العام نفسه. ولما كان القانون الجنائي الروسي يحظر تجنيد المرتزقة ومشاركتهم في النزاعات المسلحة في الخارج، وقّع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نهاية العام الماضي، على تعديلات قانون الخدمة العسكرية، بما يتيح إبرام عقود قصيرة، لمدة لا تزيد عن عام، لأداء الخدمة خارج البلاد، ما فتح مجالاً للضباط المتقاعدين للتوجه إلى سورية للعمل كمستشارين عسكريين بصورة قانونية.