نحن والخواجات.. أيضاً

06 ابريل 2019
+ الخط -
قبل سنوات قليلة، في واحدةٍ من الدعوات الشعرية التي وجهت لي للمشاركة في افتتاح مهرجان ثقافي في برلين، والمشاركة في ندوةٍ، على هامش المهرجان، عن الكتابة والمنفى، طلب منظمو المهرجان مني كتابة شهادة بالإنكليزية، وقراءتها في أثناء الندوة أيضا بالإنكليزية. بدا الأمر صعبا لي في البداية، فلست بارعةً في اللغات، ولم أكتب يوما بالإنكليزية. ربما أتمكن من القراءة بها، والترجمة البسيطة أحيانا، ويمكنني إجراء حوار عادي مع آخرين، لكن الكتابة أمرٌ مختلف تماما، إنها تعني أن تفكر باللغة التي ستكتب بها، أن تركّب جملك وأفكارك بناء على أحاسيسك ومشاعرك. مشاعرنا وردود فعلنا تنبع من الوعي والعقل، وعينا متكوّن على اللغة التي نشأنا عليها، ولم نتمرس بغيرها ذلك التمرس الذي يمكّننا من ترجمة أوامرنا العقلية إلى لغة أخرى مباشرة، من دون المرور بلغتنا الأصلية. كان أمامي خيارٌ وحيدٌ أن أكتب الشهادة باللغة العربية، ويترجمها لي صديق مختص إلى اللغة الإنكليزية، وهذا ما حدث. وقرأت شهادتي بالإنكليزية أمام جمهور في غالبيته عربي وألماني. أبديت احتجاجي لمنظمي الندوة، إذ من المفترض أن أتحدّث بلغتي، وليأتوا بمترجم إلى الألمانية أو الإنكليزية، خصوصا أن برلين تمتلئ بالعرب والسوريين الذين يعرفون اللغتين.
لا يمكن لمنظمي أي مهرجان ثقافي عربي الطلب من أي مدعو غير عربي التحدث في أثناء ندوة ما بلغة غير لغته. لم يحدث شيءٌ كهذا على حد علمي، كل مشارك يتحدث بلغته الأصلية، وثمة من يترجم إلى اللغتين، العربية والإنكليزية، كون الأخيرة اللغة الوحيدة التي أصبحت صلة وصل بين متحدثي كل لغات العالم، ليس فقط لأنها سهلة إلى حد ما، وإنما لأنها أصبحت لغة التكنولوجيا الحديثة أيضا، ولغة العلم والطب، مثلما كانت لغة السينما العالمية. ثمّة سلطة للغة الإنكليزية لا تغيب السياسة عنها، جعلتها اللغة الوحيدة التي يمكن لكل الشعوب التواصل عبرها. هذه السلطة والهيمنة اللغوية جعلتا بعض الأوروبيين يرفضون التحدّث بها في بلادهم، فمثلا كثيرون جدا من الألمان والفرنسيين يتجنّبون الحديث بالإنكليزية، إذا ما حاولتَ التحدث معهم، أنت الغريب هناك. ليس عن جهل بها، بل عن موقفٍ متعصبٍ للغات بلدهم، إذ طالما أنت تقيم في بلدهم، إذاً عليك تعلم لغة البلد، والتحدث بها معهم. التحدث بالإنكليزية يعتبر بالنسبة لبعض منهم إهانةً للغتهم، ولتاريخهم الثقافي العريق، في فرنسا خصوصا. وفي ألمانيا ما زال كثيرون يؤمنون بتفوق العرق الآري الألماني، ليس بوصفه نوعا فقط بل ثقافة أيضا. والثقافة تعني اللغة أولا، هذا يوجد لدى الأتراك أيضا، ثمّة استعلاء منهم تجاه اللغات الأخرى بما فيها الإنكليزية. يعتقد الأتراك أنهم ليسوا في حاجةٍ للتحدث بلغة أخرى، على الرغم من أن مؤشر حركة السياحة الخارجية في تركيا من أعلى مؤشرات العالم. ومع ذلك، نادرا ما تجد أحدا يتحدّث بالإنكليزية، قد يعرفون القليل من العربية كونها لغة القرآن، لكنهم لا يتحدثون بها، هذا أيضا موقفٌ متعصبٌ للقومية التركية العثمانية التي كانت ذات يوم تحتل نصف العالم.
يحدث في بلادنا العكس. نحن نشعر بالذنب أننا لا نعرف اللغات الأخرى، ونتشاوف عبر تدخيل مفردات إنكليزية، أو فرنسية، في كلامنا اليومي، وكأننا بهذا نوحي للآخرين، أبناء بلادنا، بأننا لا نشبهم، بل نشبه "الخواجات" البيض. هذه إحدى أخطر عقدنا الدونية تجاه المستعمر الذي احتل بلادنا، أو الذي ما زال يتلاعب بنا، كما لو أننا أحجار دومينو، مصابون نحن بمتلازمة استوكهولم، بما يخص علاقتنا بتاريخنا ولغتنا، نتعامل بدونية مع "الخواجة" الذي يعيش في بلادنا منذ عشرات السنين، ويرفض التحدث بلغتنا العربية. نجبر أنفسنا على التحدث معه بلغةٍ وسيطة أو بلغته، بينما هو يتعامل باستعلاء كريه ومريب معنا، من دون أن نسمح لأنفسنا بسؤاله عن رفضه التحدث بالعربية، أو من دون أن نتمكّن من اتخاذ موقف ضد استعلائه علينا.
اللغة شخصية وهوية وذات كاملة. الذين يشعرون بالخجل من لغتهم الأم لديهم مشكلة مع ذواتهم، ومع علاقتهم ببيئاتهم. لديهم مشكلة في الهوية، لا الهوية الوطنية، بل الهوية التاريخية والإنسانية والحضارية. لديهم إحساسٌ غير مفهوم بالنقص، وهو ما يلتقطه مباشرة المعتز بلغته وهويته وتاريخه، ما يجعله يسلك معهم سلوكا استعلائيا، ويتعامل مع لغتنا العربية بازدراء.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.