نحن أحياء وباقون وللحلم بقية

11 مارس 2015

قصف أميركي على بغداد (21 مارس/2003/Getty)

+ الخط -

وصلت إلي الرسالة التالية من بغداد، تعقيباً على مقالتي في "العربي الجديد"، في 4 مارس/ آذار الجاري، أنقلها بشيء من التشذيب الذي لا يخل بالأصل، ومن دون تعليق:

"قرأت مقالتك التي تطلب فيها منا، نحن كتاب الداخل ومثقفيه، أن نقول كلمتنا في ما يجري في بلادنا من أحداث، وأن لا نصمت، وأظنك لا تعرف حقيقة ما يجري هنا، أو لعلك تحاول أن تداري مشاعرنا، أو أن تزايد على مواقفنا، أو ربما صوّر لك وجودك في هذا البلد أو ذاك، وتمتعك بقدر من الحرية والأمن والأمان أن الدنيا بخير هنا، ولا يعوزها سوى أن تمسك بالقلم، أو أن تركن إلى "النيت"، وتقول كلمتك، وتمشي.

نحن هنا، يا سيدي، في العراق، في بلاد الخارج منها مولود، والداخل اليها مفقود، أو مختطف، أو قتيل، وأنتم، رعاكم الله، خرجتم فنجوتم، وولدتم من جديد!

هل تعرف، يا سيدي، حقيقة ما يجري هنا؟ هنا "من تكلم قطعت رقبته، ومن سكت مات كمداً بدائه"، وقد اختار معظمنا، نحن كتاب ومثقفي هذه البلاد، الباقين على أرضها، أن نموت بدائنا، على أن تقطع رقابنا، هل تدرك ماذا يعني ذلك؟ لقد اصطدمت عيونك، من غير شك، وأنت تحرك "الماوس" بيدك، بين هذا الموقع الإلكتروني وذاك، مشاهد مرعبة عن قطع الرقاب، وحرق الأجساد، وثقب الرؤوس بالمثقاب، وقد أغضبتك تلك المشاهد حقاً، وحركت لديك مشاعر النقمة، على هؤلاء الذين تجردوا من إنسانيتهم، وتمادوا في طغيانهم، من غير رادع، ولعلك، أيضاً، ترحمت على القتلى، وتمنيت الصبر لأسرهم، ثم أشحت بعيونك عن "النيت"، وأغلقت "الكومبيوتر"، ودخلت في إغفاءة حالمة!

نحن هنا، يا سيدي، نعيش هذه الكوابيس، ونتعايش معها كل يوم، وكل ساعة، هل تعلم أننا تدربنا على النوم، وعيوننا مفتوحة، وآذاننا تظل تسترق السمع، لربما اقتحمنا طارق شرير، حاملاً مسدسه الكاتم، ليقضّ مضاجعنا، ليلاً أو نهاراً، الأمر سواء، فقد انتهى عندنا حساب الزمن، وتعلمنا فضيلة الصبر على النوائب، والاستسلام لقضاء الله وقدره، والصلاة من أجل أن لا يحل الأسوأ، فلا يزال ما هو أسوأ.

تعلمنا، أيضاً، فضيلة الصمت في مواجهة الجريمة، وهي أقل أنواع الفضائل تأثيراً، وفاعلية، قلنا لناس بلادنا: علموا أولادكم الصمت . دربوا نساءكم على الصمت .. ففضيلة هذا العصر الدموي، الصمت .. الصمت.

ماذا ترانا، إذن، نستطيع أن نفعل غير ذلك، ونحن وسط النار؟

هل تدرك، يا سيدي، معنى أن يعيش المرء وسط النار؟ هل جربت أن تقرب شرر عود الثقاب من أصبعك؟ لك أن تتصور، إذن، كيف يحترق جسد طفل بريء أمامك، كيف تسلب الحياة من جسد صبية، أو شيخ عجوز، كيف يدفن الصبيان، زرافات ووحداناً، وهم أحياء، لمجرد أنهم ولدوا على دين آبائهم، ولم يعرفوا ساعة ولادتهم، هل يسدلون أيديهم في أثناء الصلاة، أم يقبضونها، وهم أيضا لم يختاروا أسماءهم، علياً أم عمر، فاطمة أم عائشة؟

هل طرق سمعك، يا سيدي، أن لدينا 4563 مختطفاً من النساء والرجال والأطفال، في عام واحد فقط، هو 2014، وعندنا أيضاً 15538قتيلاً في العام نفسه، معظمهم مدنيون، لقد فقدت الأرقام قدرتها على إثارة عقولنا، وتنبيهنا إلى المخاطر التي تحيط بنا.

هل تعلم أن بغداد، عاصمة أبي جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والمأمون، التي تغنى بها الشعراء والغاوون تحولت إلى "مكب للنفايات"، وعذراً لأنني قد أكون خدشت سمعك بهذا الوصف، وقد أصبحت أسوأ مكان للعيش في هذا الكون، بشهادة عالمية صادرة عن مؤسسة اسمها "مؤسسة ميرسر" المتخصصة في استشارات المدن، أتدري لم عدّت كذلك؟ لأن العنف الطائفي استوطن شوارعها، وأزقتها، وبيوتها، وما عاد في وسع أحد أن يضمن حماية نفسه وأسرته، حتى داخل منزله، ولأن الموت أصبح على مقربة، فهنا إذا لم يمت المرء بالسكين، أو بالمسدس الكاتم، مات بغيرهما، والذكي هو من يتحايل على الموت، بالصمت والصبر.

بقي شيء آخر، أود أن أشير إليه، قبل أن أنهي رسالتي، لقد أوردت، في العديد من مقالاتك، أن العراق بلد لا يقبل القسمة، وأظنك تسخر منا، يا عزيزي، بهذا الحكم، فالعراق الذي نتمناه ونرغب فيه، هو غير الماثل أمامنا اليوم، فقد تمزق، وانقسم على نفسه، وأوشك أن يتشظى،.لا تقل لي، كما قال غيرك، إن العراق يشبه طائر العنقاء الذي يبعث حياً كلما مات، هيرودتس يقول إن طائر العنقاء يحتاج إلى خمسمئة عام كي يمارس هذا الطقس، هل تريد أن ننتظر خمسمئة عام أخرى، كي ينهض بلدنا من واقعة موته؟ ألم يصنف شاعرنا العربي عودة العنقاء بأنها من مستحيلات ثلاث: "الغول، والعنقاء، والخل الوفي"؟

مع ذلك، أتمنى أن لا تصدق هذه التكهنات، وأن يعود العراق إلى عافيته، ما دمنا نحمل في أعماقنا بقية حلم، وقد كتبت لك لأطمئنك أننا "أحياء وباقون، وللحلم بقية".

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"